واعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما جوز الاستثناء المنفصل بالآية المذكورة وعامة الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب في الإخبار عن الأمور المستقبلة.
قال القرطبي في تأويل الآية : هذا في تدارك التبرّي والتخلص منا لإثم وإما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً انتهى.
قال في مناقب الإمام الأعظم روي أن محمد بن إسحاق صاحب المغازي كان يحسد أبا حنيفة لما روي من تفضيل المنصور أبي جعفر أبا حنيفة على سائر العلماء فقال محمد بن إسحاق عند أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور لأبي حنيفة ما تقول في رجل حلف وسكت ثم قال : إن شاء الله بعد ما فرغ من يمينه وسكت فقال أبو حنيفة : لا يعمل الاستثناء لأنه مقطوع وإنما ينفعه إذا كان متصلاً فقال محمد بن إسحاق : كيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين وهو عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه يعمل الاستثناء وإن كان بعد سنة لقوله تعالى :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ فقال أمير المؤمنين : أهكذا قول جدي فقال : نعم فقال المنصور على وجه الغضب لأبي حنيفة : أتخالف جدي يا أبا حنيفة؟ فقال أبو حنيفة لقول ابن عباس تأويل يخرج على الصحة ثم قال لأمير المؤمنين : إن هذا وأصحابه لا يرونك أهلاً للخلافة لأنهم يبايعونك ثم يخرجون فيقولون
٢٣٥
إن شاء الله ويخرجون من بيعتك ولا يكون في عنقهم حنث فقال أمير المؤمنين لأعوانه : خذوا هذا يعني محمد بن إسحاق فأخذوه وجعلوا رداءه في عنقه وحبسوه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٣٣
ملزم آمد محمد إسحاق
مبتلاً شد بنقيض إطلاق
وفيه تعظيم إمام الملة قائل الحق بغير العلة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٣٣
﴿وَلَبِثُوا﴾ أي : الفتية وهو بيان لاجمال قوله :﴿فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ ﴿فِى كَهْفِهِمْ﴾ إحياء نياماً ﴿ثَلَـاثَ مِا ئَةٍ سِنِينَ﴾ عطف بيان لثلاثمائة لا تمييز وإلا لكان أقل مدة لبثهم عند الخليل ستمائة سنة لأن أقل الجمع عنده اثنان وعند غيره تسعمائة لأن أقله ثلاثة عندهم هذا على قراءة مائة بالتنوين وأما على قراءة الإضافة فأقيم الجمع مقام المفرد لأن حق المائة أن يضاف إلى المفرد وجه ذلك أن المفرد في ثلاثمائة درهم في المعنى جمع فحسن إضافته إلى لفظ الجمع كما في الأخسرين أعمالاً فإنه ميز بالجمع وحقه المفرد نظراً إلى مميزه ﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ أي : تسع سنين وهو إشارة إلى أن ذلك الحساب على اعتقاد أهل الكتاب شمسي وأما عند العرب فهو قمري والقمري يزيد على الشمسي تسعاً لأن التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين ولذلك قال وازدادوا تسعاً هو مفعول ازدادوا والسنة الشمسية مدة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من ذلك البرج وذلك ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم والسنة القمرية اثنا عشر شهراً قمرياً ومدتها ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثلث يوم.
قال الكاشفي :(وبتحقيق سيصدسال شمسي سيصدونه سال قمري ودوماه نوازده روز باشد).
﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا﴾، قال البغوي : إن الأمر في مدة لبثهم كما ذكرنا فإن نازعوك فيها فأجبهم و﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا﴾ أي : بالزمان الذي لبثوا فيه لأن علم الخفيات مختص به ولذلك قال :﴿لَهُ﴾ خاصة ﴿غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ أي : ما غاب عن أهل الأرض ﴿أَبْصِرْ بِهِ﴾ (ه بيناست خداى تعالى بهر موجودى) ﴿وَأَسْمِعْ﴾ (وه شنواست بهر مسموعي).
قال الشيخ في تفسيره الضمير في بهمحله رفع لكونه فاعلاً لفعل التعجب والباء زائدة والهمزة في الفعلين للصيرورة أصله بصر الله وسمع ثم غير إلى لفظ الأمر وليس بأمر إذ لا معنى للأمر هنا ومعناه ما أبصر الله بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع وصيغة التعجب ليست على حقيقتها لاستحالته على الله بل للدلالة على أن شأن علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين لا يحجبه شيء ولا يحول دونه حائل ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف والصغير والكبير والخفي والجلي ولعل تقديم أمر إبصاره تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصرات.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٣٦
قال في "التأويلات النجمية" :﴿أَبْصِرْ بِه وَأَسْمِعْ﴾ أي : هو البصير بكل موجود وهو السميع بكل مسموع فبه أبصر وبه أسمع انتهى.
قال القيصري رحمه الله سمعه تعالى عبارة عن تجليه بعلمه المتعلق بحقيقة الكلام الذاتي في مقام جمع الجمع والأعياني في مقام الجمع والتفصيل ظاهراً وباطناً لا بطريق الشهود وبصره عبارة عن تجليه وتعلق علمه بالحقائق على طريق الشهود وكلامه عبارة عن التجلي الحاصل من تعلق الإرادة والقدرة لإظهار ما في الغيب وإيجاده قال تعالى :﴿إِنَّمَآ أَمْرُه إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا﴾ (يس : ٨٢) الآية ﴿مَّا لَهُم﴾ أي : لأهل السموات والأرض ﴿مِن دُونِهِ﴾
٢٣٦