﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ عطف على مقدر كأنه قيل فوقع بعض توقعه من المحذور وأهلك أمواله المعهودة التي هي جنتاه وما حوتاه مأخوذ من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد غلبه واستولى عليه فيهلكه ﴿فَأَصْبَحَ﴾ صار ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ ظهراً لبطن تأسفاً وتحسراً كما هو عادة النادمين فإن النادم يضرب يديه واحدة على الأخرى.
قال في "بحر العلوم" تقليب الكفين وعض الكف والأنامل واليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الندم والحسرة لأنها من روادفها فتطلق الرادفة على المردوف فيرتقي الكلام به إلى الذروة العليا ويزيد الحسن بقبول السامع ولأنه في معنى الندم عدي تعديته بعلى كأنه قيل فأصبح يندم ﴿عَلَى مَآ أَنفَقَ﴾ (برآن يزى خرج نموده بود اول) ﴿فِيهَآ﴾ في عمارتها من المال، وفي "المثنوي" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٤٧
بر كذشته حسرت آوردن خطاست
باز نايد رفته ياد آن هباست
ولعل تخصيص الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية يقول الفقير الظاهر أن الإنفاق إنما هو لتملكها فالتحسر على ماله مغن عن التحسر على الجنة لأنها بدله وهذا شائع في العرف كما يقول بعض النادمين قد صرفت لهذا كذا وكذا مالاً وقد آل عمره إلى الهلاك متحسراً على المال المصروف ﴿وَهِىَ﴾ أي : الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل ﴿خَاوِيَةٌ﴾ خالية ساقطة يقال خوت الدار خويا تهدمت وخلت من أهلها ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾ دعائمها المصنوعة للكروم سقطت عروشها على الأرض وسقط فوقها الكروم وتخصيص حالها بالذكر دون النخل والزرع لكونها العمدة قيل أرسل الله عليها ناراً فأحرقتها وغار ماؤها ﴿وَيَقُولُ﴾ عطف على يقلب يا لَيْتَنِى} (كاشكى من) ﴿لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا﴾ كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتي من جهة الشرك فتمنى أنه كان موحداً غير مشرك حين لم ينفعه التمني ولما كان رغبته في الإيمان لطلب الدنيا لم يكن قوله هذا توبة وتوحيداً لخلوه عن الإخلاص.
قال ابن الشيخ في سورة الأنعام : الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة لكونه إيماناً وطاعة أما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب فغير مفيدة انتهى، وفي "المثنوي" :
٢٤٨
آن ندامت از نتيجه رنج بود
نى زعقل روشن ون كنج بود
ونكه شدرنج آن ندامت شد عدم
مى نيرزد خاك آن توبه ندم
ميكند او توبه ور خرد
بانك لو ردوا لعادوا ميزند
﴿وَلَمْ تَكُن لَّه فِئَةٌ﴾ جماعة ﴿يَنصُرُونَهُ﴾ يقدرون على نصره بدفع الهلاك أو على رد المهلك والإتيان بمثله ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فإنه القادر وحده على نصره بذلك لا غير لكنه لا ينصره لاستحقاقه الخذلان بكفره ومعاصيه ﴿وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا﴾ ممتنعاً بقوته عن انتقامه سبحانه.
﴿هُنَالِكَ﴾ أي : في ذلك المقام وتلك الحال (دروقت زوال نعمت) أي : النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد وهو تقرير لقوله تعالى :﴿وَلَمْ تَكُن لَّه فِئَةٌ يَنصُرُونَه مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وحقق ظنه وترك عدوه مخذولاً مقهوراً أو يؤيده قوله تعالى :﴿هُوَ﴾ أي : الله تعالى ﴿خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ بمعنى العاقبة أي : لأوليائه.
قال سعدي المفتي وعقبى يشمل العاقبة الدنيوية أيضاً كما لا يخفى.
قال في "الجلالين" : أفضل ثواباً ممن يرجى ثوابه وعاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٤٧
واعلم أن هذه القصة مشتملة على فوائد كثيرة وأعظمها أن التوحيد وترك الدنيا سبب للنجاة في الدارين والشرك وحب الدنيا سبب للهلاك فيهما.
وعن وهب بن منبه أنه قال : جمع عالم من علماء بني إسرائيل سبعين صندوقاً من كتب العلم كل صندوق سبعون ذراعاً فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان أن قل لهذا العالم لا تنفعك هذه العلوم وإن جمعت أضعافاً مضاعفة ما دام معك ثلاث خصال : حب الدنيا، ومرافقة الشيطان، وإيذاء مسلم وذلك أن فرعون علم نبوة موسى عليه السلام ولكن منعه حب الدنيا والرياسة عن المتابعة فلم ينفعه علمه المجرد وكذا علم إبليس حال آدم عليه السلام واليهود حال نبينا صلى الله عليه وسلّم وما سعدوا بمجرد علمهم وما وجدوا خير عاقبة ولو عملوا بما وعظوا لنجوا وفي "المثنوي" :
كره ناصح را بود صد داعيه
ندرا اذنى ببايد واعيه
تو بصد تلطيف ندش مى دهى
او ز ندت ميكند هاو تهى
يك كس نا مستمع زاستيز ورد
صد كس كوينده را عاجز كند
ز أنبيا نا صح ترو وخوش لهجه تر
كى بود كه رفت دمشان در حجر
زانكه كوه وسنك دركار آمدند
مى نشد بدبخت را بكشاده بند
آننان دلها كه بدشان وما ومن
نتشان شد بل أشد قسوة
ألا يرى لم ينجع فيه وعظ أخيه المسلم لزيادة قسوة قلبه فآلت عاقبته إلى الندامة.


الصفحة التالية
Icon