ومنها : أن رحمة الله تعالى في الدنيا تعم المؤمن والكافر لأنه لا يؤاخذهم بما كسبوا في الدنيا بقطع الرزق ونحوه وتخص يوم القيامة بالمؤمن والعذاب يخص الكافر كقوله تعالى :﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ أي : إنما أهلكنا أهل تلك القرى بعد أن كان من سنتنا أن تعم رحمتنا المؤمن والكافر في الدنيا لأنهم ضموا مع كفرهم الظلم ومن سنتنا أن لا نمهل الظالم ولا نهمله كما قال عليه السلام :"الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم" وقال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـالِمِينَ بَعْضَا﴾ وذلك لأن همم المظلومين المظطرين مؤثرة ودعاؤهم مستجاب قال عليه السلام :"اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" ومن هذا المقام يعرف سر قوله عليه السلام :"ولدت في زمن الملك العادل" فإن إطلاق العادل على أنوشروان بالنسبة إلى انتفاء الظلم الآفاقي عنه وقد كان في نفسه مجوسياً والشرك ظلم عظيم، قال الشيخ سعدي :
مهازورمندى مكن بركهان
كه بريك نمط مى نماند جهان
ريشانى خاطر داد خواه
بر اندازد ازمملكت بادشاه
خنك روز محشرتن داد كر
كه در سايه عرش دارد مقر
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦١
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى﴾ :
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه أنعام الله عليهم فخطب خطبة بليغة رقت بها القلوب وذرفت العيون فقال واحد من علماء بني إسرائيل : يا موسى من أعلم؟ قال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه تعالى فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر وكان في أيام
٢٦٢
أفريدون الملك العادل العاقل قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى وهو قد بعث في أيام كشتاسف بن لهراسب كما قاله ابن الأثير في "تاريخه" فقال : يا رب أين أطلبه وكيف يتيسر لي الظفر به والاجتماع معه قال : اطلبه على ساحل البحر عند الصخرة وخذ حوتاً مملوحاً في مكتل يكون زاداً لك فحيث فقدته أي : غاب عنك فهو هناك فأخذ حوتاً فجعله في مكتل فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني.
والمعنى اذكر وقت قول موسى بن عمران لما فيه من العبرة وزعم أهل التوراة أن موسى هذا هو موسى بن ميشا بن يوسف النبي عليه السلام وأنه كان نبياً قبل موسى بن عمران لاستبعادهم أن يكون كليم الله المختص بالمعجزات الباهرة مبعوثاً للتعلم والاستفادة ممن هو دونه فلهذا لا يبعد عن العالم الكامل أن يجهل بعض الأشياء فالفاضل قد يكون مفضولاً من وجه بل المراد منه صاحب التوراة وإطلاق هذا الاسم يدل عليه لأنه لو أراد غيره لقيده كما يقال أبو حنيفة الدينوري تمييزاً عن أبي حنيفة الإمام وهو يوشع بن نون بن افراييم بن يوسف وهو ابن أخت موسى وكان من أكبر أصحابه ولم يزل معه إلى أن مات وخلفه في شريعته وكان من أعظم بني إسرائيل بعد موسى سمي فتاه إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه ويسمى الخادم والتلميذ فتى وإن كان شيخاً وإليه يشير القول المشهور :"تعلم يا فتى فالجهل عار" وهو عبد حكمي كما قال شعبة : من كتبت عنه أربعة أحاديث فأنا عبده إلى أن أموت وقيل لعبده وإنما قال لفتاه تعليماً للأدب قال عليه السلام :"ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي" قال أبو يوسف : من قال أنا فتى فلان كان إقراراً منه بالرق.
يقول الفقير المشهور وهو الوجه الأول وتأبى جلالة هذا السفر إلا أن يكون الصاحب من أولي الخطر ونظيره أن نبينا صلى الله عليه وسلّم لما أراد الهجرة لم يرض برفاقته في سفره إلا الصديق رضي الله عنه لكونه أعز أصحابه وخليفته بعده كما أن يوشع صار خليفة موسى بعده
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٢