﴿وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ﴾ بوسوسته الشاغلة عن ذلك ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ بدل اشتمال من الضمير أي : وما أنساني أن أذكره لك ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ﴾ سبيلاً ﴿عَجَبًا﴾ وهو كون مسلكه كالطاق والسرب فعجباً ثاني مفعولي اتخذ والظرف حال من أولهما أو ثانيهما وهو بيان لطرف من أمر الحوت منبيء عن طرف آخر وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه كقيل حيى واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجباً يعني : أن قوله وما ﴿أَنسَـاـانِيهُ﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه سببه ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان.
قال الإمام : فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرة من موسى كثيراً فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيهاً لموسى على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب الخاطر انتهى.
وقال بعضهم : لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة وهي حياة السمكة المملوحة المأكول بعضها وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أي : لمقتضى نفسه من الاغترار والافتخار بأمثاله.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥
وفي الآيات إشارات :
منها : أن الطالب الصادق إذا قصد خدمة شيخ كامل يسلكه طريق الحق يلزمه مرافقة رفيق التوفيق ومعه حوت قلبه الميت بالشهوات النفسانية المملح بملح حب الدنيا وزينتها ومجمع البحرين هو الولاية بين الطالب وبين الشيخ ولم يظفر المريد بصحبة الشيخ ما لم يصل إلى مجمع ولايته فافهم جدا وعند مجمع الولاية عين الحياة الحقيقية فبأول قطرة من تلك العين تقع على حوت قلب المريد يحيى ويتخذ سبيله في البحر عن الولاية سرباً.
ومنها : أن الله يحول بين المرء وقلبه فينسى المريد قلبه حين فقده وينسى القلب المريد إذا وجد الشيخ، وفي "المثنوي" :
اي خنك آن مرده كزخودرسته شد
دروجود زنده يوشته شد
واى آن زنده كه بامرده نشست
مرده كشت وزنده كى ازوى رست
ومنها أن المريد لو تطرق إليه الملالة في أثناء السلوك وأصابت قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن خدمة الشيخ وترك صحبته حتى يظن أن لو سافر عن خدمته واشتغل بطاعة ربه وجاهد نفسه في طلب الحق تعالى لعله يصل مقصده ويحصل مقصوده بلا واسطة الشيخ والاقتداء به هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد وأنه يضيع عمره ويتعب نفسه ويضل عن سبيل الرشاد ويبعد عن طريق السداد إلا إن أدركته العناية الأزلية التي هي الكفاية الأبدية وردت إليه صدق الإرادة، وفي "المثنوي" :
آن رهى كه بارها تورفته
بى قلاوز اندرآن آشفته
س رهى راكه نرفتسنى توهي
هين مروتنها زرهبر سرم
٢٦٦
هين مرالا كه بارهاى شيخ
تاببيني عون ولشكر هاى شيخ
ومنها : أن صحبة الشيخ المرشد غداء للمريد لاشتمالها على ما يجري مجرى الغداء للروح من الأقوال الطيبة والأفعال الحسنة ومتى جاوز صحبته أتعب نفسه بلا فائدة الوصول ونيل المقصود ولا يحمل على هذا إلا شيطان الخذلان فيلزم الرجوع والعود إلى ملازمة الخدمة في مرافقة رفيق التوفيق كما رجع موسى ويوشع عليهما السلام قال الله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : ١١٩) أي : في صحبتهم ولا تكونوا مع الكاذبين، وفي "المثنوي" :
هر طرف غولى همى خواند ترا
كاى برادرراه خواهى هين بيا
رهنمايم هم رهت باشم رفيق
من قولاوزم درين راه دقيق
نى قلاوزست ونى ره دانداو
يوسفا كم روسوى آن كرك خو
نسأل الله العصمة والتوفيق.
﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام :﴿ذَالِكَ﴾ الذي ذكرت من أمر الحوت ﴿مَّآ﴾ أي : الذي ﴿كُنَّا نَبْغِ﴾ أصله نبغي والضمير العائد إلى الوصول محذوف أي : نبغيه ونطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام من لقاء الخضر عليه السلام ﴿فَارْتَدَّا﴾ رجعا من ذلك الموضع وهو طرف نهر ينصب إلى البحر ﴿عَلَى ءَاثَارِهِمَا﴾ طريقهما الذي جاآ منه والآثار الإعلام جمع أثر وأثر وخرج في أثره وأثره أي : بعده وعقبه.
وبالفارسية :(برنشانهاى قدم خود) ﴿قَصَصًا﴾ مصدر فعل محذوف أي : يقصان قصصاً أي : يتبعان آثارهما اتباعاً ويتفحصان تفحصاً حتى أتيا الصخرة التي حيى الحوت عندها وسقط في البحر واتخذ سبيله سرباً.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥


الصفحة التالية
Icon