الروح بالصفة الغالبة قد وقع لكثير من أهل السلوك ولكن ليس كل مرئي في اليقظة تمثلاً كما في المنام فقد يظهر المثال وقد يظهر حقيقته ولله في كل شيء حكمة بالغة ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ﴾ هي الوحي والنبوة كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصه بجناب الكبرياء.
قال الإمام مسلم : إن النبوة رحمة كما في قوله تعالى :﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ ونحوه ولكن لا يلزم أن تكون الرحمة نبوة فالرحمة هنا هي طول العمر على قول من ذهب إلى عدم نبوته ﴿وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ خاصاً هو علم الغيوب والإخبار عنها بإذنه تعالى على ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما أو علم الباطن.
قال في "بحر العلوم" : إنما قال من لدنا مع أن العلوم كلها من لدنه لأن بعضها بواسطة تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علماً لدنيا بل العلم اللدني هو الذي ينزله في القلب من غير واسطة أحد ولا سبب مألوف من خارج كما كان لعمر وعلي ولكثير من أولياء الله تعالى المرتاضين الذين فاقوا بالشوق والزهد على كل من سواهم كما قال سيد الأولين والآخرين عليه السلام :"نفس من أنفاس المشتاقين خير من عبادة الثقلين" وقال عليه السلام :"ركعتان من رجل زاهد قلبه خير وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين إلى آخر الدهر" وقد صدق لكنه قليل كما قال :﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ : ١٣) وقال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية : ٢٦) ومن هنا يتبين لك معرفة رفعة الصحابة رضي الله عنهم وعظمهم رتبة ومكاناً من الله فإنهم أئمة المشتاقين والزاهدين الشاكرين ونجوم لهم يهتدون بهم انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ﴾ أي : حراً من رق عبودية غيرنا من أحرارنا أي : ممن أحررناهم من رق عبودته الأغيار واصطفيناهم من الأخيار ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ﴾ يعني جعلناه قابلاً لفيض نور من أنوار صفاتنا بلا واسطة ﴿وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ وهو علم معرفة ذاته وصفاته الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليمه إياه.
واعلم أن كل علم يعلمه الله تعالى عباده ويمكن للعباد أن يتعلموا ذلك العلم من غير الله تعالى فإنه ليس من جملة العلم اللدني لأنه يمكن أن يتعلم من لدن غيره يدل عليه قوله :﴿وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ﴾ (الأنبياء : ٨٠) فإن علم صنعة اللبوس مما علمه الله داود عليه السلام فلا يقال إنه العلم اللدني لأنه يحتمل أن يتعلم من غير الله تعالى فيكون من لدن ذلك الغير وأيضاً إن العلم اللدني ما يتعلق بلدن الله تعالى وهو علم معرفة ذاته وصفاته تعالى انتهى.
قال الجنيد قدس سره : العلم اللدني ما كان تحكماً على الأسرار بغير ظن فيه ولا خلاف لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنونات المغيبات وذلك يقع للعبد إذا زم جوارحه عن جميع المخلوقات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحاً بين يدي الحق بلا تمن ولا مراد.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : باب الملكوت والمعارف من المحال أن ينفتح وفي القلب شهوة هذا الملكوت وأما باب العلم بالله تعالى من حيث المشاهدة فلا ينفتح وفي القلب لمحة للعالم بأسره الملك والملكوت (درفتوحات ازسلطان العارفين قدس سره نقل ميكندكه باجمعى دانشمندان مى كفته) أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥
كلشني كز نقل رويد يكدمست
كلشني كز عشق رويد خرمست
كلشني كز كل دمد كردد تباه
كلشني كز دل دمد وافرحتاه
٢٧٠
علم ون بردل زند يارى شود
علم ون بر كل زند بارى شود


الصفحة التالية
Icon