واعلم أن الصوفية سموا العلوم الحاصلة بسبب المكاشفات العلوم اللدنية وتفصيل الكلام أنا إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون ضرورياً حاصلاً من غير كسب وطلب وإما أن يكون كسبياً أما العلوم الضرورية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب مثل تصورنا الألم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الواحد نصف الإثنين وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم فإن كان التوصل إلى استعلام المجهولات بتركيب العلوم البديهية فهو طريق النظر وإن كان بتهيئة المحل وتصفيته عن الميل إلى ما سوى الله تعالى فهو طريق الكشف والكشف أنواع أعلاها أسرار ذاته تعالى وأنوار صفاته وآثار أفعاله وهو العلم الإلهي الشرعي المسمى في مشرب أهل الله علم الحقائق أي : العلم بالحق سبحانه وتعالى من حيث الإرتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما ليس في الطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل في ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة وهذا العلم الجليل بالنسبة إلى سائر العلوم كالشمس بالنسبة إلى الذرات وكالبحر إلى القطرات فعلوم أهل الله مبنية على الكشف والعيان وعلوم غيرهم من الخواطر الفكرية والأذهان وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح وبداية طريق غيرهم تحصيل الوظائف والمناصب وجمع الحطام الذي لا يدوم وقال المولى الجامي :
جان زاهد ساحل وهم وخيال
جان عارف غرقه بحر شهود
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه الطيب وقدس سره الزكي في كتاب "اللائحات البرقيات" المراد بالرحمة علم العبادة والدراسة والظاهر والشريعة ولذلك عبر عنه بالرحمة بناء على عمومه مثلها حيث قال :﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ﴾ (الأعراف : ١٥٦) ولكون مقام هذا العلم الظاهري مقام القرب الصفاتي عبر عن مقامه بما يعبر به عن مقام هذا القرب الصفاتي من قوله تعالى :﴿مِّنْ عِندِنَا﴾ أي : من مقام واحدية صفاتنا ومرتبة قربها والمراد بالعلم علم الإشارة والوراثة والباطن والحقيقة ولذلك عبر عنه بلفظ العلم بناء على التعبير بالمطلق على الفرد الكامل إذ العلم الباطني من العلم الظاهري بمنزلة الروح واللب من الجسد والقشر وبمنزلة المعنى من الصورة فلا جرم أن العلم الباطني من العلم الظاهري بمنزلة الفرد الكامل من الفرد الناقص والعلم الظاهري من العلم الباطني بمنزلة الفرد الناقص من الفرد الكامل والنقصان الموهوم المعتبر في العلم الظاهري بحسب الإضافة والنسبة إلى العلم الباطني باعتبار المقام الذي يوجب الامتياز بينهما من جهة الصورة لا يقدح في كماله الذاتي الحقيقي في عينه ونفسه كما أن الكمال المعتبر في العلم الباطني بحسب الإضافة والنسبة إلى العلم الظاهري باعتبار المقام الموجب للافتراق بينهما من جهة التعين لا يزيد في كماله الذاتي الحقيقي في نفسه وذاته بل كل منهما من حيث هو بالنظر
٢٧١
إلى ذاته مع قطع النظر إلى الإضافة والنسبة المعتبرة بينهما بحسب المقامات والتعلقات وغير ذلك كمال محض لا يتصور في واحد منهما نقصان أصلاً فكما أن الجهل والغفلة في أنفسهما محض نقصان حقيقي فكذلك العلم والمعرفة في أنفسهما محض كمال حقيقي وإنما الاعتبارات لئلا تبطل حقائق الأحكام ولذا قيل لولا الاعتبارات أي : الاضافات والنسب المعتبرة بين الأشياء لبطلت الحقائق ولما كان مقام هذا الباطن مقام القرب الذاتي عبر عن مقام ما يعبر به عن مقام القرب الذاتي من قوله :﴿مِن لَّدُنَّا﴾ أي : من مقام أحدية ذاتنا ومرتبتها ولذا خص كبار الصوفية في اصطلاحاتهم لفظ العلم اللدني بهذا العلم الباطني الحاصل بمحض تعليم الله تعالى من لدنه بغير واسطة عبارة ولذلك قال بعضهم :
تعلمنا بلا حرف وصوت
قرأناه بلا سهو وفوت
يعني بطريق الفيض الإلهي والإلهام الرباني لا بطريق التعليم اللفظي والتدريس القولي ولكون مقام العلم الظاهري من مقام العلم الباطني بمنزلة الظاهر من الباطن حيث يتعلق العلم الظاهري بظواهر الشريعة وصورها والعلم الباطني بمنزلة الباب من البيت ومن أراد دخول البيت فليأت من باب وبيت العلم ومدينته هو النبي عليه السلام وباب هذا البيت والمدينة هو علي ـ رضي الله عنه ـ كمال قال عليه السلام :"أنا مدينة العلم وعليّ بابها".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٥
كرتشنه فيض حق بصدقى حافظ
سر شمه آن زساقى كوثر رس


الصفحة التالية
Icon