﴿قَالَ لَه مُوسَى﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فماذا جرى بينهما من الكلام فقيل : قال له موسى أي : للخضر عليهما السلام :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ أصحبك ﴿عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ﴾ على شرط أن تعلمن وهو في موضع الحال من الكاف وهو استئذان منه في اتباعه له على وجه التعليم ويكفيك دليلاً في شرف الاتباع ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ أي : علماً ذا رشد أرشد به في ديني والرشد إصابة الخير.
قال الكاشفي :(علمي كه مبني بررشد باشد) يعني : إصابة خير ولقد راعى في سوق الكلام غاية التواضع معه فينبغي للمرء أن يتواضع لمن هو أعلم منه.
قال الإمام والآية تدل على أن موسى راعى أنواع الأدب جعل نفسه تبعاً له فقال :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ واستأذن في إثبات هذه التبعية وأقر على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم في قوله :﴿عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ﴾ ومن في قوله :﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ للتبعيض أي : لا أطلب مساواتك في العلوم وإنما أريد بعضاً من علومك كالفقير يطلب من الغني جزء من ماله وقوله :﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ اعتراف بأنه أخذ
٢٧٣
من الله وقوله :﴿رَشَدًا﴾ طلب للإرشاد أي : ما لولاه لضل وهذا يدل على أنه طلب أن يعامله بمثل ما عامله الله به أي : ينعم بالتعليم كما أنعم الله عليه فإن البذل من الشكر، قال الحافظ :
أي صاحب كرامت شكرانه سلامت
روزى تفقدى كن درويش بى نوارا
قال قتادة : لو كان أحد مكتفياً من العلم لاكتفى نجي الله موسى ولكنه قال :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ الآية.
وقال الزجاج وفيما فعل موسى وهو من أجلة الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته ولذا ورد "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، وفي "المثنوي" :
خاتم ملك سليمانست علم
جمله عالم صورته وجانست علم
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٣
قال العلماء ولا ينافي نبوة موسى وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من نبي آخر ما لا يتعلق له بأحكام شريعته من أسرار العلوم الخفية وقد أمر الله بأخذ العلم منه فلا دلالة له.
قال شيخي وسندي روح الله روحه تعليم موسى وتربيته بالخضر إنما هو من قبيل تعليم الأكمل وتربيته بالكامل لأنه تعالى قد يطلع الكامل على أسرار يخفيها عن الأكمل وإذا أراد أن يطلع الأكمل عليها أيضاً فقد يطلعه بالذات وقد يطلعه بواسطة الكامل ولا يلزم من توسط الكامل أن يكون أكمل من الأكمل أو مثله والكامل كامل مطلقاً والأكمل أكمل مطلقاً والرجحان للأكمل جداً ولا تسمع إلى غير ذلك مما يقول الضالون وقول الخضر لموسى عليه السلام يا موسى أنت على علم علمك الله وأنا على علم علمني الله إنما هو بناء على الامتياز المعتبر بينهما بحسب الغالب في نشأة كل منهما وإلا فالعلم الظاهر والباطن حاصلان في نشأة كل منهما انتهى وفهم منه جواب ما سبق من قوله إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك فإن المراد إثبات أعلميته في علم من العلوم الخاصة دون سائرها وقد انعقد الإجماع على أن نبينا عليه السلام أعلم الخلق وأفضلهم على الإطلاق وقد قال :"أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفي قصص الأنبياء بينما هما على ساحل البحر إذ أقبل طائر وغمس منقاره في البحر ثم أخرجه ومسحه على جناحه ثم طار نحو المشرق ثم أطار نحو المغرب ثم رجع وصاح فقال الخضر : يا موسى أتروي ما قال هذا الطائر؟ قال : لا قال : إنه يقول ما أوتي بنو آدم من العلم إلا بمقدار ما أخذت من هذا البحر بمنقاري.
ازعلم تونكته ايست عالم
زان دائره نقطه ايست آدم
وفي "التأويلات النجمية" : من آداب المريد الصادق بعد طلب الشيخ ووجدانه أن يستجيز منه في اتباعه وملازمة صحبته تواضعاً لنفسه وتعظيماً لشيخه بعد مفارقة أهاليه وأوطانه وترك مناصبه واتباعه وإخوانه وأخدانه كما كان حال موسى إذ قال للخضر :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ بإرشاد الله لك أي : تعلمني طريق الاسترشاد من الله بلا واسطة جبريل والكتاب المنزل ومكالمة الحق تعالى فإن جميع ذلك كان حاصلاً له.
فإن قيل فهل مرتبة فوق هذه المراتب الثلاث؟ قلنا إن هذه المراتب وإن كانت عزيزة جليلة ولكن مجيىء جبريل يقتضي الواسطة وإنزال الكتاب يدل على البعد والمكالمة عن الإثنينية والرشد الحقيقي من الله للعبد هو أن يجعله قابلاً لفيض نور الله بلا واسطة وذلك يتجلى جماله وجلاله الذي كان مطلوب
٢٧٤
موسى بقوله :﴿أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ (الأعراف : ١٤٣) فإن فيه رفع الإثنينية وإثبات الوحدة التي لا يسع العبد فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ومنها أن المريد إذا استسعد بخدمة شيخ واصل ينبغي أن يخرج عما معه من الحسب والنسب والجاه والمنصب والفضائل والعلوم ويرى نفسه كأنه أعجمي لا يعرف الهر من البر أي : ما يهره مما يبره أو القط من الفار أو العقوق من اللطف أو الكراهية من الإكرام كما في "القاموس"، قال الحافظ :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٣