قوله :﴿اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا﴾ في محل الجر على أنه صفة لقرية وجه العدول عن استطعماهم على أن يكون صفة للأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم فإن الإباء من الضيافة وهم أهلها قاطنون بها أقبح وأشنع ﴿فَأَبَوْا﴾ امتنعوا ﴿أَن يُضَيِّفُوهُمَا﴾ أي : من تضييفهما وهو بالفارسية (مهمان كردن) يقال ضافه إذا نزل به ضيفاً وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفاً له هذا حقيقة الكلام ثم شاع كناية عن الإطعام وحقيقة ضاف مال إليه من ضاف السهم عن الغرض إذا مال وعن النبي عليه السلام :"كانوا أهل قرية لثاما"، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨١
بزر كان مسافر بجان رورند
كه نام نكويى بعالم برند
غريب آشناباش وسياح دوست
كه سياح جلاب نام نكوست
تبه كرددان مملكت عن قريب
كزوخاطر آزرده كردد غريب
نكو دار ضيف ومسافر عزيز
وز آسيب شان بر حذرباش نيز
وفي الحكاية أن أهلها لما سمعوا الآية جاءوا إلى النبي عليه السلام بحمل من الذهب وقالوا : نشتري بهذا أن تجعل الباء تاء يعني فأتوا أن يضيفوهما أي : لأن يضيفوهما وقالوا : غرضنا دفع اللؤم فامتنع وقال : تغييرها يوجب دخول الكذب في كلام الله والقدح في الإلهية كذا في "التفسير الكبير" ﴿فَوَجَدَا فِيهَا﴾ قال الكاشفي :(ايشان كرسنه بيرون ديه بودند بامداد روى براه نهادند س يافتند در نواحى ديه) ﴿جِدَارًا﴾ (ديوارى مائل شده بيك طرف) ﴿يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ﴾ الإرادة نزوع النفس إلى شيء مع حكمه فيه بالفعل أو عدمه والإرادة من الله هي الحكم وهذا من مجاز كلام العرب لأن الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما يقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها.
قال في "الإرشاد" أي : يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة في ذلك.
والانقضاض الإسراع في السقوط وهو انفعال من القض يقال قضضته فانقض ومنه انقضاض الطير والكواكب لسقوطها بسرعة.
وقيل هو إفعلال من النقض كاحمر من الحمرة ﴿فَأَقَامَهُ﴾ فسواه الخضر بالإشارة بيده كما هو المروي عن النبي عليه السلام وكان طول الجدار في السماء مائة ذراع ﴿قَالَ﴾ له موسى لضرورة الحاجة إلى الطعام.
قال الكاشفي :(كفت موسى اين أهل ديه ماراً جاى ندادند وطعام نيز نفرستادند س را ديوار ايشانرا عمارت كردى) والجملة جزاء الشرط ﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ﴾ افتعل من اتخذ بمعنى أخذ كأتبع وليس من الأخذ عند البصريين ﴿عَلَيْهِ﴾ على عملك ﴿أَجْرًا﴾ أجرة حتى نشتري بها طعاماً.
قال بعضهم لما قال له ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ قال الخضر : أليس كنت في البحر ولم تغرق من غير سفينة ولما قال :﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ فقال : أليس قتلت القبطي بغير ذنب ولما قال :﴿لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ قال : أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير أجرة وهذا من باب لطائف المحاورات.
قال القاسم لما قال موسى هذا القول وقف ظبي بينهما وهما جائعان من جانب موسى غير مشوي ومن جانب الخضر مشوي لأن الخضر أقام الجدار بغير طمع وموسى رده إلى الطمع.
قال ابن عباس
٢٨٢
رضي الله عنهما : رؤية العمل وطلب الثواب به يبطل العمل ألا ترى الكليم لما قال للخضر :﴿لَوْ شِئْتَ﴾ الآية كيف فارقه.
وقال الجنيد قدس سره : إذا وردت ظلمة الاطماع على القلوب حجبت النفوس على نظرها في بواطن الحكم.
يقول الفقير : إن قلت كيف جوز موسى طلب الأجر بمقالة العمل الذي حصل بمجرد الإشارة وهو من طريق خرق العادة الذي لا مؤونة فيه.
قلت : لم ينظر إلى جانب الأسباب وإنما نظر إلى النفع العائد إلى جانب أصحاب الجدار ألا ترى أنه جوز أخذ الأجر بمقالة الرقية بسورة الفاتحة ونحوها وهو ليس من قبيل طلب الأجرة على الدعوة فإنه لا يجوز للنبي أن يطلب أجراً من قومه على دعوته وإرشاده كما أشير إليه في مواضع كثيرة من القرآن.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨١
﴿قَالَ﴾ الخضر ﴿هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ أي : هذا الوقت وقت الفراق بيننا وهذا الاعتراض الثالث سبب الفراق الموعود بقوله فلا تصاحبني وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف اتساعاً ﴿سَأُنَبِّئُكَ﴾ سأخبرك السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة ﴿بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ التأويل رجع الشيء إلى مآله والمراد به ههنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل وهو خلاص السفينة من اليد العادية وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما" أي : يبين الله لنا بالوحي.