وفي إفناء الوجود المجازي تحصيل للوجود الحقيقي فما دامت البشرية وأوصافها باقية على حالها لا يظهر آثار الأخلاق الإلهية البتة.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارات :
منها : أن خرق السفينة وإعابتها لئلا تؤخذ غصباً ليس من أحكام الشرع ظاهراً ولكنه لما كان فيه مصلحة لصاحبها في باطن الشرع جوز ذلك ليعلم أنه يجوز للمجتهد أن يحكم فيما يرى أن صلاحه أكثر من فساده في باطن الشرع بما لا يجوز في ظاهر الشرع إذا كان موافقاً للحقيقة كما قال :﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم﴾ الآية.
ومنها : أن يعلم عناية الله في حق عباده المساكين الذين يعملون في البحر غافلين عما وراءهم من الآفات كيف أدركتهم العناية بنبي من أنبيائه وكيف دفع عنهم البلاء ودرأ عنهم الآفة.
ومنها : أن يعلم أن الله تعالى في بعض الأوقات يرجح مصلحة بعض السالكين على مصلحة نبي من أنبيائه في الظاهر وإن كان لا يخلو في باطن الأمر من مصلحة النبي في إهمال جانبه في الظاهر كما أن الله تعالى رجح رعاية مصلحة المساكين في خرق السفينة على رعاية مصلحة موسى لأنه كان من أسباب مفارقته عن صحبة الخضر ومصلحته ظاهراً كانت في ملازمة صحبة الخضر وقد كان فراقه عن صحبته متضمناً لمصالح النبوة والرسالة ودعوة بني إسرائيل وتربيتهم في حق موسى باطناً انتهى.
يقول الفقير : ومنها أن أهل السفينة لما لم يأخذوا النول من موسى والخضر عوضهم الله تعالى خيراً من ذلك حيث نجى سفينتهم من اليد العادية وفيه فضيلة الفضل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٣
﴿وَأَمَّا الْغُلَـامُ﴾ الذي قتلته وهو جيسور ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ﴾ اسم أبيه كازبرا واسم أمه سهوى كما في التعريف ﴿مُؤْمِنَيْنِ﴾ مقرين بتوحيد الله تعالى ﴿فَخَشِينَآ﴾ خفنا من ﴿أَن يُرْهِقَهُمَا﴾ رهقه غشيه ولحقه وأرهقه طغياناً أغشاه إياه وألحق ذلك به كما في "القاموس".
قال الشيخ أي : يكلفهما ﴿طُغْيَـانًا﴾ ضلالة ﴿وَكُفْرًا﴾ ويتبعان له لمحبتهما إياه فيكفران بعد الإيمان ويضلان بعد الهداية وإنما خشي الخضر من ذلك لأن الله أعلمه بحال الولد أنه طبع أي : خلق كافراً.
﴿فَأَرَدْنَآ﴾ (س خواستيم ما) ﴿أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ يعوضهما ويرزقهما ولداً ﴿خَيْرًا مِّنْهُ زَكَواةً﴾ طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة ﴿وَأَقْرَبَ﴾ منه ﴿رُحْمًا﴾ رحمة وبراً بوالديه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما أبدلهما الله جارية تزوجها نبي من الأنبياء فولدت سبعين نبياً.
قال مطرف فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض المرء بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن خير له من قضائه فيما يحب :
آن سررا كش خضر ببريد حلق
سر آنرا در نيابد عام خلقآنكه جان بخشد اكر بكشدرواست
نائب است ودست او دست خداست
بس عداوتها كه آن يارى بود
بس خرابيها كه معمارى بود فرب عداوة هي في الحقيقة محبة ورب عدو هو في الباطن محب وكذا عكسه وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفي عليه عيوبه، وفي المثنوي :
٢٨٥
در حقيقت دوستانت دشمنند
كه زحضرت دور ومشغولت كنند
در حقيقت هر عدو داروى تست
كيميا ونافع ودلجوى تست
كه ازو اندر كريزى در خلا
استعانت جويى از لطف خدا
ـ وكان ـ واعظ كلما وعظ ودعا أشرك في دعائه قطاع الطريق ودعا لهم فسئل عن ذلك فقال : إنهم كانوا سبباً لسلوكي هذا الطريق أي : طريق الفقراء واختياري الفقر على الغنى فإني كنت تاجراً فأخذوني وآذوني وكلما خطر ببالي أمر التجارة ذكرت أذاهم وجفاهم فتركت التجارة وأقبلت على العبادة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٣
وفي الآية إشارات :
منها أن قتل النفس الزكية بلا جرم منها محظور في ظاهر الشرع وإن كان فيه مصلحة لغيره ولكنه في باطن الشرع جائز عند من يكاشف بخواتيم الأمور ويتحقق له أن حياته سبب فساد دين غيره وسبب كمال شقاوة نفسه كما كان حال الخضر مع قتل الغلام لقوله تعالى :﴿وَأَمَّا الْغُلَـامُ﴾ الآية فلو عاش الغلام لكان حياته سبب فساد دين أبويه وسبب كمال شقاوته فإنه وإن طبع كافراً شقياً لم يكن يبلغ كمال شقاوته إلا بطول الحياة ومباشرة أعمال الكفر.
ومنها تحقيق قوله تعالى :﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة : ٢١٦) الآية فإن أبوي الغلام كانا يكرهان قتل ابنهما بغير قتل نفس ولا جرم وكان قتله خيراً لهما وكانا يحبان حياة ابنهما وهو أجمل الناس وكان حياته شراً لهما وكان الغلام أيضاً يكره قتل نفسه وهو خير له ويحب حياة نفسه وهو شر له لأنه بطول حياته يبلغ إلى كمال شقاوته.


الصفحة التالية
Icon