﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ بالإسناد إلى نفسه لظاهر القبح وفي تأويل قتل الغلام بلفظ الخشية والإسناد إلى نا لأن الكفر مما يجب أن يخشاه كل أحد وقال في تأويل الجدار ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا﴾ بالإسناد إلى الله تعالى وحده لأن بلوغ الأشد وتكامل السن ليس إلا بمحض إرادة الله تعالى من غير مدخل وأثر لإرادة العبد فالأول في نفسه شر قبيح والثالث خير محض والثاني ممتزج.
وقال بعضهم لما قال الخضر ﴿فَأَرَدتُّ﴾ ألهم من أنت حتى يكون لك إرادة فجمع في الثانية حيث قال :﴿فَأَرَدْنَآ﴾ فإلهم من أنت وموسى حتى يكون لكما إرادة فخص في الثالثة الإرادة بالله أي : دون إضافة الإرادة إلى نفسه وادعاء الشركة فيهما أيضاً ﴿وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا﴾ من تحت الجدار ولولا أني أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع بالكلية.
فإن قيل إن عرف واحد من اليتيمين والقيم عليهما الكنز امتنع أن يترك سقوط الجدار وإن لم يعرفوا فكيف يسهل عليهم استخراجه.
قلنا لعلهما لم يعلماه وعلم القيم إلا أنه كان غائباً كذا في "تفسير الإمام".
يقول الفقير قوله وإن لم يعرفوا الخ غير مسلم لأن الله تعالى قادر على أن يعرفهما مكان ذلك الكنز بطريق من الطرق ويسهل عليهما استخراجه على أن واجد الكنز في كل زمان من غير سبق معرفة بالمكان ليس بنادر واللام في كنز لهما لاختصاص الوجدان بهما ومن البعيد أن يعيش الجد السابع إلى أن يولد للبطن السادس من أولاده ويدفن له مالاً أو يعين له ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ لهما مصدر في موقع الحال أي : مرحومين من قبله تعالى أو علة لأراد فإن إرادة الخير رحمة أو مصدر لمحذوف أي : رحمهما الله بذلك رحمة ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ﴾ أي : ما فعلت ما رأيته يا موسى من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ﴿عَنْ أَمْرِى﴾ عن رأيي واجتهادي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه وهذا إيضاح لما أشكل على موسى وتمهيد للعذر في فعله المنكر ظاهراً وهكذا الطريق بين المرشد والمسترشد في إزالة الشكوك والشبه عنه شفقة له ﴿ذَالِكَ﴾ المذكور من العواقب ﴿تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ أي : لم تستطع فحذف التاء للتخفيف وهو إنجاز للتنبئة الموعودة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٣
ـ روي ـ أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له الخضر : لو صبرت لأتيت على ألف عجب كل عجب أعجب مما رأيت فبكى موسى على فراقه وقال له : أوصني يا نبي الله، قال : لا تطلب العلم لتحدث به الناس واطلبه لتعمل به وذلك لأن من لم يعمل
٢٨٧
بعلمه فلا فائدة في تحديثه بل نفعه يعود إلى غيره، وفي المثنوي :
جوع يوسف بود آن يعقوب را
بوى نانش مى رسيد ازدورجا
آنكه بستد يرهن رامى شتافت
بوى يراهان يوسف مى نيافت
وانكه صدرفرسنك زآن سوبوى او
ونكه بد يعقوب مى بوييد بو
اي بسا عالم زدانش بى نصيب
حافظ علمست آنكست نى حبيب
مستمع ازوى همى بايد مشام
كره باشد مستمع ازجنس عام
زانكه يراهان بدستش عاريه است
ون بدست آن نخاسى جاريه است
جاريه يش نخاسى سرسريست
در كف او ازبراى مشتريت
ومن وصايا الخضر : كن نَفَّاعاً ولا تكن ضراراً، وكن بشاشاً ولا تكن عبوساً غضاباً، وإياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير المذنبين خطاياهم بعد الندم، وابككِ على خطيئتك ما دمت حياً، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، واجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن لخوف من أمنك، ولا تيأس من الأمن من خوفك، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك.
فقال له موسى : قد أبلغت في الوصية فاتم الله عليك نعمته وغمرك في رحمته وكلأك من عدوه، فقال له الخضر : أوصني أنت يا موسى فقال له موسى : إياك والغضب إلا في الله، ولا تحب الدنيا فإنها تخرجك من الإيمان وتدخلك في الكفر فقال له الخضر : قد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته وأراك السرور في أمرك وحببك إلى خلقه وأوسع عليك من فضله قال له : آمين كما في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي رحمه الله.
وفي بعث موسى إلى الخضر إشارة إلى أن الكمال في الانتقال من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على التطلع إلى حقائق الأمور كما في "تفسير الإمام".
قال بعض العارفين : من لم يكن له نصيب من هذا العلم أي : العلم الوهبي الكشفي أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى النصيب التصديق به وتسليمه لأهله وأقل عقوبة من ينكره أن لا يرزق منه شيئاً وهو علم الصديقين والمقربين كذا في "إحياء العلوم".
وفي الآية إشارات :
منها : أنه تعالى من كمال حكمته وغاية رأفته ورحمته في حق عباده يستعمل نبيين مثل موسى والخضر عليهما السلام في مصلحة الطفلين.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٣
ومنها : أن مثل الأنبياء يجوز أن يسعى في أمر دنيوي إذا كان فيه صلاح أمر أخروي لا سيما فائدة راجعة إلى غيره في الله.


الصفحة التالية
Icon