﴿فَمَا اسْتَطَـاعُوا﴾ بحذف تاء الافعال تخفيفاً وحذراً من تلاقي المتقاربين، وقال في "برهان القرآن" : اختار التخفيف في الأول لأن مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول فاختير فيه الحذف والثاني مفعوله اسم واحد وهو قوله نقباً انتهى.
والفاء فصيحة أي : فعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر فافرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلاً صلداً أي : صلباً أملس فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما قدروا ﴿أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته ﴿وَمَا اسْتَطَـاعُوا لَه نَقْبًا﴾ أي : وما قدروا أن ينقبوه ويخرقوه من أسفله لصلابته وثخانته وهذه معجزة عظيمة لأن تلك الزبر الكثيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر الحيوان على أن يحوم حولها فضلاً عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار أو عن إفراغ القطر عليها فكأنه سبحانه صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كل شيء قدير كذا في "الإرشاد" : أخذاً عن "تفسير الإمام".
يقول الفقير : ليس ببعيد أن يكون المباشرة بالنفخ والصب من بعيد بطريق من طرق الحيل ألا ترى أن نار نمرود لما كانت بحيث لا يقرب منها أحد عملوا المنجنيق فألقوا بها إبراهيم عليه السلام فيها وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن رجلاً أخبره به أي : بالسد فقال :"كيف رأيته" قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال :"قد رأيته" وذلك لأن الطريقة الحمراء من النحاس والسوداء من الحديد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٨
﴿قَالَ﴾ ذو القرنين ﴿هَـاذَا﴾ السد ﴿رَحْمَةً﴾ عظيمة ونعمة جسيمة ﴿مِّن رَّبِّى﴾ على كافة العباد لا سيما على مجاهديه.
وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بمباشرتي ﴿فَإِذَا جَآءَ﴾ (س ون بيايد) ﴿وَعْدُ رَبِّى﴾ مصدر بمعنى المفعول وهو يوم القيامة والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيىء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى ونحو ذلك ﴿جَعَلَهُ﴾ أي : السد أشار إليه مع متانته ﴿دَكَّآءَ﴾ أرضاً مستوية وقرىء دكاً أي : مدكوكاً مستوياً بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك وفيه بيان لعظم قدرته تعالى بعد بيان سعة رحمته ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى﴾ أي : وعده المعهود أو كل ما وعد به ﴿حَقًّا﴾ ثابتاً لا محالة واقعاً ألبتة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٩
وفي "التأويلات النجمية" : وفي قوله :﴿هَـاذَا﴾ إلى آخر الآية دلالة على نبوته فإنه أخبر عن وعد الحق وتحقيق وعده وهذا من شأن الأنبياء وإعجازهم انتهى.
وهذا آخر حكاية ذي القرنين.
قيل : إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون الشعاع قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرون غداً ولم يستثننِ فيعيده الله كما كان فيأتون غداً فيجدونه كالأول فإذا أراد الله خروجهم خلق فيهم رجلاً مؤمناً
٢٩٩