واعلم أن زكريا إشارة إلى الروح الإنساني وامرأته إلى الجثة الجسدانية التي هي زوج الروح ويحيى إلى القلب وقد استبعد الروح بسبب طول زمان التعلق بالقالب أن يتولد له قلب قابل لفيض الألوهية بلا واسطة كما قال :"لا يسعني أرضى ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" وهو الفيض الأزلي لم يؤت لواحد من الحيوانات والملائكة كما قال المولى الجامي :
ملائك را ه سود از حسن طاعت
و فيض عشق بر آدم فرو ريخت
ثم إنه لما بشر بولادة القلب الموصوف بما ذكر طلب آية يهتدي بها إلى كيفية حمل القالب العاقر بالقلب الحي الذي حيى بنور الله تعالى قال :﴿ءَايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ﴾ أي : لا تخاطب غير الله ولا تلتفت إلى ما سوى الله ثلاث ليال وبها يشير إلى مراتب ما سوى الله وهي ثلاث : الجمادات، والحيوانات، والروحانيات، فإذا تقرب إلى الله تعالى بعدم الالتفات إلى ما سواه يتقرب إليه بموهبة الغلام الذي هو القلب الحي بنوره فخرج زكريا الروح من محراب هواه وتبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته فقال : كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد فلما ولد له يحيى القلب قيل له يا يحيى خذ كتاب الفيض الإلهي بقوّة ربانية لا بقوّة إنسانية لأنه خلق الإنسان ضعيفاً وهو عن القوة بمعزل وأن الله هو الرزاق ذو القوّة المتين فجاء صاحب علم وحكمة ورحمة وطهارة من الميل إلى ما سوى الله واتقاء ﴿وَبَرَّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ كالنفس الأمارة بالسوء ما بره بوالد الروح فتنويره بنور الفيض الإلهي إذ هو محل قبول الفيض لأن الفيض الإلهي وإن كان نصيب الروح أو لا ولكن لا يمسكه للطافة الروح بل يعبر عنه الفيض ويقبله القلب ويمسكه لأن فيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه كمالا هي أن الشمس فيضها يقبل الهواء لصفائه ولكن لا يمسكه للطافة الهواء فأما المرة فتقبل فيضها بصفائها وتمسكه لكثافتها وهذا أحد أسرار حمل الأمانة التي حملها الإنسان ولم تحملها الملائكة وأما برّه بوالدة القالب فباستعمالها على وفق أوامر الشرع ونواهيه لينجيها من عذاب القبر ويدخلها الجنة كذا في "التأويلات النجمية" باختصار.
قال بعض الأولياء : كنت في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني فتعجبت منه وألهمت أنه الخضر فقلت له : بحق الحق
٣٢٠
من أنت؟ قال : أنا أخوك الخضر فقلت له : أريد أن أسألك قال : سل قلت : بأي وسيلة رأيتك؟ قال : ببرك أمك كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
فعلى العاقل أن يكون باراً بوالديه مطلقاً أنفسين أو أفاقيين فإن البر يهدي إلى الجنة ودار الكرامة ويبشر في شدائد الأحوال بالأمن والأمان وأنواع السلامة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٨


الصفحة التالية
Icon