﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد للناس ﴿فِى الْكِتَـابِ﴾ أي : القرآن أو السورة الكريمة فإنها بعض من الكتاب فصح إطلاقه عليها ﴿مَرْيَمَ﴾ على حذف المضاف أي : خبر بنت عمران وقصتها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان ومريم بمعنى العابدة قال بعض العلماء في حكمة ذكر مريم باسمها دون غيرها من النساء أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ ولا يبتذلون أسماءهن بل يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال والأهل ونحو ذلك فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها فلما قالت النصارى في حق مريم ما قالت وفي ابنها صرح الله تعالى باسمها ولم يكنّ عنها تأكيداً للأموّة والعبودية التي هي صفة لها وإجراء للكلام على عادة العرب في ذكر إمائها ومع هذا فإن عيسى عليه السلام لا أب له واعتقاد هذا واجب فإذا تكرر ذكره منسوباً إلى الأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله تعالى كذا في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي.
وقال في "أسئلة الحكم" : سميت مريم في القرآن باسمها لأنها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكامل فذكرت باسمها كما يذكر الرجال من موسى وعيسى ونحوهما عليهم السلام وخوطبت كما خوطب الأنبياء كما قال تعالى : يا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} (آل عمران : ٤٣) ولذا قيل : بنبوتها ﴿إِذِ انتَبَذَتْ﴾ ظرف لذلك المضاف من النبذ وهو الطرح والانتباذ افتعال منه ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ من قومها متعلق بانتبذت ﴿مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان.
قال الحسن ومن ثمة اتخذ النصارى المشرق قبلة كما اتخذ اليهود المغرب قبلة لأن الميقات وإيتاء التوراة واقعاً في جانب الجبل الغربي كما قال تعالى :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ﴾ (القصص : ٤٤) والمعنى حين اعتزلت وانفردت وتباعدت من قومها وأتت مكاناً شرقياً من دار خالتها ايشاع زوجة زكريا فإن موضعها كان المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فاحتاجت يوماً إلى الاغتسال وكان الوقت وقت الشتاء فجاءت إلى ناحية شرقية من الدار وموضع مقابل للشمس.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢١
﴿فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ﴾ أي : أرخت من أدنى مكان أهلها.
قال الكاشفي :(از يش ايشان يعني از سوى ايشان) ﴿حِجَابًا﴾ ستراً تستر به.
قال الكاشفي :(رده كه مانع باشد ازديدن) فبينما هي في مغتسلها وقد تطهرت ولبست ثوبها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيىء الوجه جعد الشعر وذلك قوله تعالى :﴿فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ أي : جبريل فإنه كان روحانياً فأطلق عليه الروح للطافته مثله ولأن الدين يحيى به.
وقال بعض الكبار جبرائيل هو الروح حقيقة باعتبار حقيقته المجردة مجازاً باعتبار صورته المثالية ومن خصائص الأرواح المجردة التي من صفاتها الذاتية الحياة ومن شأنها التمثل بالصور المثالية لأنها لا تمس شيئاً في حال تمثلها إلا حيى ذلك الشيء وسرت منها الحياة فيه ولذا قبض
٣٢١
السامري قبضة تراب من أثر براق جبرائيل فنبذها في صورة العجل المتخذة من حلي القوم فخار العجل بسراية الحياة فيه وقيل سماه روحاً مجازاً محبة له وتقريباً كقولك أنت روحي لمن تحب ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا﴾ (س متمثل شد جبريل براى مريم) يعني فتشبه لأجلها فانتصاب قوله :﴿بَشَرًا﴾ على أنه مفعول به ﴿سَوِيًّا﴾ تام الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئاً وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته تعالى إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع استماع كلامه ولأنه جاء للنفخ المنتج للبشر فتمثل بشراً ولو جاء على صورة الملك لجاء عيسى على صورة الروحانيين كما لا يخفى.
وفيه إشارة إلى أن القربان بعد الطهر التام أطهر والولد إذن أنجب فافهم.
وفي "التأويلات" : الروح هو نور كلمة الله التي يعبر عنها بقوله كن وإنما سمي نور كلمته روحاً لأنه به يحيى القلوب الميتة كما قال :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾ (الأنعام : ١٢٢) الآية فتارة يعبر عن الروح بالنور وتارة يعبر عن النور بالروح كقوله :﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ (الشورى : ٥٢) الآية فأرسل الله إلى مريم نور كلمة كن فتمثل لها بشراً سوياً كما تمثل نور التوحيد بحروف لا إله إلا الله والذي يدل على أن عيسى من نور الكلمة قوله تعالى :﴿وَكَلِمَتُه أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ (النساء : ١٧١) أي : نور من لقائه فلما تمثلت الكلمة بالبشر أنكرتها مريم ولم تعرفها فاستعاذت بالله منه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢١


الصفحة التالية
Icon