﴿قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ﴾ يا شاب ذكره تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها.
قال في "الكشاف" : دل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة ﴿إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ تتقي الله وتبالي بالاستعاذة به وجواب الشرك محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي : فإني عائذة به.
وقال الكاشفي :(يعني تومتقى ومتورعى من از تور هيز ميكنم وناه بحق ميبرم فكيف كه نين نباشى).
قال الشيخ في تفسيره : وإنما قالت ذلك لأن التقي يتعظ بالله ويخاف والفاسق يخوف بالسلطان والمنافق يخوف بالناس كما قال في "التأويلات النجمية" يعني : أنك إن كنت تقياً من أهل الدين تعرف الرحمن فلا تقربني بعوذي به وإن كنت شقياً لا تعرف الرحمن فأتعوذ منك بالخلق فأجابها.
﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ يريد أني لست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر وإنما أنا رسول ربك الذي استعذت به ﴿لاهَبَ لَكِ غُلَـامًا﴾ أي : لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدرع ﴿زَكِيًّا﴾ طاهراً من الذنوب ولوث الظلمة النفسانية الإنسانية.
﴿قَالَتْ﴾ استبعاداً ظاهراً أي : متعجبة من حيث العادة لا مستبعدة من حيث القدرة ﴿أَنَّى يَكُونُ لِى﴾ (كونه بودمرا) ﴿غُلَـامٌ﴾ كما وصف ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ﴾ أي : والحال أنه لم يباشرني بالنكاح رجل فإن المس كناية عن الوطىء الحلال أما الزنى فإنما يقال خبث بها أو فجر أو زنى وإنما قيل بشر مبالغة في بيان تنزهها عن مبادي الولادة الحال أنه ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ فعول بمعنى الفاعل أصله بغوياً.
قال الشيخ في "تفسيره" : ولم يقل بغية لأنه وصف غالب على المؤنث كحائض أي : فاجرة تبغي الرجال.
وبالفارسية (زنا كار وجوينده فجور) يريد نفي الوطىء مطلقاً وأن الولد إما من النكاح الحلال أو الحرام أما الحلال فلأنها لم يمسها بشر وأما الحرام فلأنها لم تك بغيا فإذا انتفى السببان جميعاً انتفى الولد.
وفي "التأويلات
٣٢٢
النجمية" :﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ﴾ قبل هذا ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ ليمسسني بشر بعد هذا بالزنى أو بالنكاح لأني محررة محرم عليّ الزوج.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢١
﴿قَالَ كَذَالِكَ﴾ أي : الأمر كما قلت.
وبالفارسية :(يعني نين است كه توميكويى هي كس بنكاح وسفاح ترامس نكرده است) فأما ﴿قَالَ رَبُّكَ﴾ الذي أرسلني إليك ﴿هُوَ﴾ أي : ما ذكرت من هبة الغلام من غير أن يمسك بشر أصلاً ﴿عَلَىَّ﴾ خاصة ﴿هَيِّنٌ﴾ يسر وإن كان مستحيلاً عادة لما أني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿قَالَ كَذَالِكَ﴾ الذي تقولين ولكن ﴿قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ﴾ أن أخلق ولداً من غير ماء منيّ والد فإني أخلقه من نور كلمة كن كما قال تعالى :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران : ٥٩) ﴿وَلِنَجْعَلَهُ﴾ أي : ونفعل ذلك لنجعل وهب الغلام ﴿لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً﴾ وبرهاناً يستدلون بها على كمال قدرتنا فالواو أعتراضية أو لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله الخ.
وفي "التأويلات النجمية" ﴿ءَايَةً﴾ أي : دلالة على قدرتي بأني قادر على أن أخلق ولداً من غير أب كما أني خلقت آدم من غير أب وأم وخلقت حواء من غير أم ﴿وَرَحْمَةً﴾ عظيمة كائنة ﴿مِّنَّا﴾ عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده وبين قوله :﴿وَرَحْمَةً مِّنَّا﴾ وقوله :﴿يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ﴾ فرق عظيم وهو أنه تعالى إذا أدخل عبداً في رحمته يرحمه ويدخله الجنة ومن جعله رحمة منه يجعله متصفاً بصفته وكذا بين قوله :﴿رَحْمَةً مِّنَّا﴾ وقوله في حق نبينا عليه السلام ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ أبداً أما في الدنيا فبأن لا ينسخ دينه وأما في الآخرة فبأن يكون الخلق محتاجين إلى شفاعته حتى إبراهيم عليه السلام فافهم جداً كذا في "التأويلات النجمية" ﴿وَكَانَ﴾ خلقه بلا فحل ﴿أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ قضيت به في سابق علمي وحكمت بوقوعه لا محالة فيمتنع خلافه فلا فائدة في الحزن وهو معنى قوله :"من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب".
يقول الفقير : ذلك أن العلم تابع للمعلوم فكل ما يقتضيه من الأحوال فالله تعالى يظهره بحكمته وخلق عيسى عليه السلام على الصفة المذكورة كان في الأزل بمقتضى الحكمة القديمة مقدراً فجميع الأعيان وما يتبعها من الأحوال المختلفة داخلة تحت الحكمة فمن كوشف عن سر هذا المقام هانت عليه المصائب والآلام إذ كل ما نبت في مزرعة الوجود الخارجي فهو من بذر الحكم الأزلي على حسب تفاوت الاستعدادات كتفاوت المزارع فمن وجد خيراً فيحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، قال الحافظ :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢١
نمى كنم كله ليكن ابر رحمت دوست
بكشت زار جكر تشنكان ندادنمى


الصفحة التالية
Icon