أي : لا أشتكي من هذا المعنى فإنه من مقضتى ذاتي، وقال :
درين من مكنم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميدهند وميرويم
أي : لا تثريب عليّ في هذا المعنى فإنه من قضاء الله تعالى.
قال الإمام أبو القاسم القشيري قدس سره : سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في آخر عمره وقد اشتدت به العلة من إمارات التأييد حفظ التوحيد في أوقات الحكم ثم قال كالمفسر لفعله مفسراً لما كان فيه من حاله هو أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعة قطعة وأنت شاكر حامد انتهى.
فقصة مريم من جملة أحكام الله تعالى ولذا عرفت الحال لأنها كانت صديقة وصبرت على
٣٢٣
أذى القوم وشماتتهم وفي الحديث :"إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه" فالواجب على العبد الحمد على البلية لما تضمنته من النعمة فإن فقد فالصبر وكلاهما من طريق العبودية وإذا وقف مع الجزع المستفاد من وجود الشفقة على نفسه فهو من غلبة الهوى.
قال أحمد بن حضرويه قدس سره الطريق واضح والدليل لائح والداعي قد أسمع فما التحير بعد هذا إلا من العمى وفي الحديث خطاباً لابن عباس رضي الله عنهما "إن استطعت أن تعملبالرضى في اليقين فافعل وإلا ففي الصبر على ما تكره خير كثير".
قال في "شرح الحكم العطائية" ثم إذا تأملت ظهر لك أن التحقق بالمعرفة منطو في وجود البلايا إذ ليست المعرفة إلا بتحقق أوصافه تعالى حتى يفنى في أوصافه كل شيء من وجودك فلا يبقى لك عز مع عزه ولا غنى مع غناه ولا قدرة مع قدرته ولا قوة مع قوته وهذا يتحقق لك بوجود البلية إذ هي مشعرة بقهر الربوبية فافهم هذا وفقنا الله وإياكم للتحقق بحقيقة الحال والتمكن في مقام الصبر والحمد على جميع الأحوال، وفي "المثنوي" :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كميايى همو صبر آدم نديد
وذلك لأن بالبلاء تحترق الأوصاف الرديئة الخلقية وبالصبر يحصل الأخلاق الإلهية والصفات الحقية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢١
﴿فَحَمَلَتْهُ﴾ قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فاطمأنت مريم إلى قول جبريل فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت عيسى عقيب النفخ.
يقول الفقير : وصول النفخ إلى الجوف لا يحتاج إلى منفذ من المنافذ كالفم ونحوه ألا ترى أن الروح حين دخل جسد آدم دخل من اليافوخ وهو وسط الرأس إذا اشتد وقبل اشتداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم نزل إلى العينين ثم إلى الفم ثم إلى سائر الأعضاء.
واعلم أن لعيسى عليه السلام جهة جسمانية وجهة روحانية وأحدية جمع للجهتين فإذا نظر إلى جهة الجسمانية يظن أنه تكون من ماء مريم وإذا نظر إلى جهة الروحانية وآثارها من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين يحكم أنه من نفخ جبريل وإذا نظر إلى أحدية جمعها يقال أنه تكون منهما فالتحقيق أن الملك لما تمثل لها بشراً سوياً نزل الماء منها إلى الرحم لشدة اللذة بالنظر إليه فتكون عيسى من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها فهو من ماء أمه فقط خلافاً للطبيعيين فإنهم ينكرون وجود الولد من ماء أحد الزوجين دون الآخر.
فإن قلت : قد ثبت أن ماء الرجل يكون منه العظم والعصب وماء المرأة يكون منه اللحم والدم فكيف جاء عيسى مركباً من هذه الأجزاء؟ قلت : خروجه على الصورة البشرية كامل الأجزاء إنما هو من أجل أمه لأن ماءها محقق ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر فإنه إنما مثل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد الذي جرت به العادة غالباً وهو تولده من شخصين إنسانين وقد توهمت في النفخ الماء فحصل الماء المتوهم أيضاً ووجود بعض الأشياء قد يترتب على توهمه كترتب السقوط عن الجذع على توهمه ولأجل تكونه من نفخ جبريل طالت إقامته في صورة البشر لأن للأرواح صفة البقاء.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٤
ـ روي ـ أن مولد عيسى عليه السلام كان قبل مولد نبينا عليه السلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة وقد بقي بعد
٣٢٤


الصفحة التالية
Icon