وسينزل ويدعو الناس إلى دين نبينا عليه السلام.
قال بعض الكبار : لو لم يتمثل جبريل عند النفخ بالصورة البشرية لظهر عيسى على صورة الروحانيين ولو نفخ فيها وقت الاستعاذة على الحالة التي كانت عليها من تحرّج صدرها وضجرها لتخيلها أنه بشر يريد مواقعتها على وجه لا يجوز في الشرائع لخرج عيسى بحيث لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه أي : رداءته لسراية حال أمه فيه لأن الولد إنما يتكوّن بحسب ما غلب على الوالدين من المعاني النفسانية والصورة الجسمانية.
نقل في الأخبار : أن امرأة ولدت ولداً صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية فلما سئلت عنها أخبرت أنها رأت حية عند المواقعة، وأن امرأة ولدت ولداً له عين أربع ورجلان كرجل الدب وكانت قبطية جامعها زوجها وهي ناظرة إلى دبين كانا عند زوجها فلما قال لها جبريل :﴿إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ جئت من عنده ﴿لاهَبَ لَكِ غُلَـامًا زَكِيًّا﴾ انبسطت عن ذلك القبض لما عرفت أنه مرسل إليها من عند ربها وانشرح صدرها لما تذكرت بشارة ربها إياها بعيسى ﴿إِذْ قَالَتِ الملائكة يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران : ٤٥) فنفخ فيها في حين الانبساط والانشراح فخرج عيسى منبسطاً منشرح الصدر لسراية حال أمه فيه.
ولذا قالوا : يتفكر عند الجماع الأقوياء ويمثل بين عينيه صورة رجل على أحسن خلقة وأقوم جثة وأفضل خلق وأكمل حال قالوا : حملته وسنها وقتئذٍ ثلاث عشرة سنة وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل.
واختلف في مدة حملها كما اختلف في مدة حمل آمنة والدة النبي عليه السلام.
ففي رواية عن ابن عباس كانت مدة الحمل والولادة ساعة واحدة وجعله بعضهم أصح لأن عيسى كان مبدعاً ولم يكن من نطفة يدور في أدوار الخلقة ويؤيده عطف قوله ﴿فَانتَبَذَتْ بِهِ﴾ بالفاء التعقيبية.
يقول الفقير : القول بأن مثل هذه الفاء قد يدل على ترتيب الحكم وعدم تكونه من نطفة ظاهرة البطلان لأنه من ماء محقق وماء متوهم كما سبق وكونه من المبدعات بلا سبب ظاهر لا يستلزم أن يكون جميع أحواله بطريق خرق العادة.
وفي رواية أخرى عنه كانت تسعة أشهر كحمل أكثر النساء إذ لو كان أقل لذكر ههنا في جملة مدائحها وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى وكان ذلك آية أخرى.
قال الحكماء في بيان سبب ذلك : أن الولد عند استكماله سبعة أشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس فإن خرج عاش وإن لم يخرج استراح في البطن عقيب تلك الحركة المضعفة فلا يتحرك في الشهر الثامن ولذلك تقل حركته في البطن في ذلك الشهر فإذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه.
وفي كلام الشيخ يحيى الدين بن العربي قدس سره لم أر للثمانية صورة في نجوم المنازل ولهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش وعلى فرض أن يعيش كان معلولاً لا ينتفع بنفسه وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٤
﴿فَانتَبَذَتْ بِهِ﴾ الباء للملابسة والجار والمجرور في حيز النصب على الحالية أي : فاعتزلت ملتبسة به أي : وهو في بطنها كقوله تنبت بالدهن أي : تنبت ودهنها فيها ﴿مَكَانًا قَصِيًّا﴾ مفعول انتبذت على تضمين معنى الإتيان كما سبق أي : أتت مكاناً بعيداً من أهلها.
قال الكاشفي :
٣٢٥
(مكاني دورز شهر ايليا كويند بكوهى رفت درجانب شرقي از شهريا بوادى بيت لحم كه شش ميل دور بود از ايليا) وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث الإسراء :"فقال لي جبريل أنزل فصللِ فصليت فقال : أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم" وهو حديث صحيح أو حسن رواه النسائي والبيهقي في "دلائل النبوة" أو أقصى الدار وهو الأنسب لقصر مدة الحمل كما في "الإرشاد".
وقال في "قصص الأنبياء" : لما دنت ولادة مريم خرجت في حوف الليل من منزل زكريا إلى خارج بيت المقدس وأحبت أن لا يعلم بها زكريا ولا غيره.
﴿فَأَجَآءَهَا﴾ تعدية جاء بالهمزة أي : جاء بها واضطرها ﴿الْمَخَاضُ﴾ وجع الولادة.
وبالفارسية (درد زادن) يقال مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج ﴿إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة إذ لم تكن لها قابلة تعينها.
وقال في القصص : رأت نخلة يابسة في جوف الليل فجلست عند أصلها.


الصفحة التالية
Icon