وأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوت فلعلمهم بما في الكلام من حظ النفس وإظهار صفات المدح والميل إلى حسن النطق.
فأما صمت الجاهلية فمنهي عنه كما ورد لا يتم بعد الاحتلام ولا صمات يوم إلى الليل فكان أهل الجاهلية من نسكهم اعتكاف يوم وليلة بالصمات فنهوا في الإسلام عن ذلك وأمروا بالحديث بالخير والذكر.
يقول الفقير : إن المنهي عنه هو السكوت مطلقاً.
وأما السكوت عن كلام الناس مع ملازمة الذكر فمقبول بل مأمور به ولذا جعل دوام السكوت أحد الشرائط الثمان فصحة الانقطاع وفائدة السلوك إنما تحصل به وباخواته ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ (س سخن نخواهم كفت امروز باهي آدمي بلكه باملائكه وباحق سخن ميكويم ومناجات ميكنم) أمرت بأن تخبر بنذرها بالإشارة فالمعنى قولي ذلك بالإشارة لا باللفظ.
قال الفراء : العرب تسمي كل وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر
٣٢٨
فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى أنه قاطع لطعن الطاعن والرائب في براءة ساحتها وذلك أن الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى فتكلم ببراءة أمه وهو في المهد وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً، قال الصائب :
درجنك ميكند لب خاموش كار تيغ
داد جواب مرمدم نادان ه لازمست
وقال :
باكران جانان مكو حرف كران تانشنوى
كوه در رد صدا بى اختيار افتاده است
ومن بلاغات الزمخشري : ما قدع السفيه بمثل الإعراض وما أطلق عنانه بمثل العراض سورة السفيه تكسرها الحلماء والنار المضطرمة يطفئها الماء يعني أن سورة السفيه كالنار المضطرمة ولا يطفأها إلا الحلم كما لا يطفىء النار إلا الماء والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.
وفي الآية : إشارة إلى الصوم عن الالتفات لغير الله تعالى كما قال بعض الكبار الدنيا يوم ولنا فيه صوم ولا يكون إفطاره إلا على مشاهدة الجمال.
فعلى السالك أن ينقطع عن عالم الناسوت ويقطع لسانه عن غير ذكر اللاهوت حتى يحصل قطع الطريق والوصول إلى منزل التحقيق وكما أن مريم هزت النخلة فأسقطت عليها رطباً جنياً فكذا مريم القلب إذا هزت بنخلة الذكر وهي كلمة "لا إله إلا الله" تسقط عليها من المشاهدات الربانية والمكاشفات الإلهية ما به يحصل التمتعات التي هي مشارب الرجال البالغين كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلّم يقول :"أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" اللهم اجعلنا من الذين كوشفوا عن وجه حقيقة الحال ووصلوا إلى تجليات الجمال والجلال.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٤
﴿فَأَتَتْ بِه قَوْمَهَا﴾ والباء بمعنى مع أي : جاءتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفاسها وجعلها الكاشفي للتعدية حيث قال :(س آورد مريم عيسى را).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها خرجت من عندهم حين شرقت الشمس وجاءتهم عند الظهر ومعها صبي ﴿تَحْمِلُهُ﴾ في موقع الحال أي : حاملة له.
ـ روي ـ أن زكريا افتقد مريم فلم يجدها في محرابها فاغتم غماً شديداً وقال لابن خالها يوسف : اخرج في طلبها فخرج يقص أثرها حتى لقيها تحت النخلة فلما رجعت إلى قومها وهم أهل بيت صالحون وزكريا جالس معهم بكوا وحزنوا ثم ﴿قَالُوا﴾ موبخين لها يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا} على حذف الباء من شيء ومآله فعلت شيئاً ﴿فَرِيًّا﴾ أي : عظيماً بديعاً منكراً مقطوعاً بكذبه من فرى الجلد إذا قطعه.
والفرية بالكسر الكذب والفري الأمر المختلق المصنوع أو العظيم وهو يفري الفرى يأتي بالعجب في عمله.
وفي "الأختري" : أنه من الأضداد يجيىء بمعنى الأمر الصالح والسيىء.
قال الكاشفي :(يزى شكفت يا زشت كه در ميان اهل بيت مثل اين واقع ثبوده).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٤
يا اأُخْتَ هَـارُونَ} روي عن النبي عليه السلام أنهم إنما عنوا به هارون النبي عليه السلام وكانت من أعقاب من كان معه في مرتبة الأخوة وذلك بأن تكون من أخت هارون أو أخيه وكان بينها وبينه ألف وثمانمائة سنة وقيل كان هارون أخاها من أبيها وكان رجلاً صالحاً وقيل هو أخو موسى نسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده كما يقال يا أخا العرب أي : يا واحداً منهم
٣٢٩
﴿مَا كَانَ أَبُوكِ﴾ عمران ﴿امْرَأَ سَوْءٍ﴾ المرء مع ألف الوصل الإنسان أو الرجل ولا يجمع من لفظه كما في "القاموس".
وسوء يفتح السين وبإضافة امرأ إليه وهي أكثر استعمالاً من الصفة والمعنى ما كان عمران زانياً قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
قال الكاشفي :(نبوددرتو عمران مردى بد بلكه مردى كه مسجد اقصارا اشرف احبار بود) ﴿وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ﴾ حنة بنت فاقوذ ﴿بَغِيًّا﴾ زانية فمن أين لك هذا الولد من غير زوج وهو تقرير لكون ما جاءت به فريا منكراً وتنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.