واعلم أن المعتاد من أهل الزمان إذا أظهر الله في كل زمان نبياً أو ولياً يخصه بمعجزة أو كرامة أن ينكر عليه أكثرهم وينسبوه إلى الجنون والضلالة والافتراء والكذب والسحر وأمثالها وأما الأقلون فيعرفون أن من سافر عن منزل الجمهور فإنه يرجع عن سفره ومعه من العلوم الغريبة والأحوال العجيبة ما لم يألف بها العقول ولم يشاهدها الأنظار فلا يرجعون بالرد عليه بل بالاعتقاد، وفي "المثنوي" :
مغزرا خالي كن از انكار يار
تا كه ريحان يابد از كلزار يار
تابيابى بوى خلد ازيار من
ون محمد بوى رحمان ازيمن
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ أي : إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم ويكون كلامه حجة لي والظاهر أنها حينئذٍ بينت نذرها وأنها بمعزل عن محاورة الإنس ﴿قَالُوا﴾ منكرين لجوابها ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ﴾ نحدث ﴿مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ﴾ (در كهواره يعنى درخور كهواره) ﴿صَبِيًّا﴾ ولم نعهد فيما سلف صبياً رضيعاً في الحجر يكلمه عاقل لأنه لا قدرة له على فهم الخطاب ورد الجواب وكان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم صالح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مسوق للتعجب أو زائدة والظرف صلة من وصبياً حال من المستكن فيه أو تامة أو دائمة كما في قوله تعالى :﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الفتح : ٤).
يقول الفقير : الظاهر أن كان لتحقيق صباوته فإن الماضي دال على التحقق.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٩
﴿قَالَ﴾ استئناف بياني كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل : قال عيسى بلسان فصيح ﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ﴾ أقر على نفسه بالعبودية أول ما تكلم رداً على من يزعم بربوبيته من النصارى وإزالة للتهمة عن الله مع إفادة إزالة تهمة الزنى عن أمه لأنه تعالى لا يخص الفاجرة بولد مثله.
قال الجنيد لست بعبد سوء ولا عبد طمع ولا عبد شهوة وفيه إشارة إلى أن أفضل أسماء البشرية العبودية.
يقول الفقير : سمعت من فم حضرة شيخي وسندي روح الله روحه أنه قال عبد الله فوق عبد الرحمن وهو فوق عبد الرحيم وهو فوق عبد الكريم ولذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الله وكذا عبد الحي وعبد الحق أعلى الأسماء وأمثلها لأن بعض الأسماء الإلهية يدل على الذات وبعضها على الصفات وبعضها على الأفعال والأولى أرفع من الثانية وهي من الثالثة.
قيل : كان المستنطق لعيسى زكريا وقد أكرم الله تعالى أربعة من الصبيان بأربعة أشياء : يوسف بالوحي في الجب، وعيسى بالنطق في المهد، وسليمان بالفهم، ويحيى بالحكمة في الصباوة.
وأما الفضيلة العظمى والآية الكبرى أن الله أكرم سيد المرسلين عليه وعليهم السلام في الصباوة بالسجدة عند الولادة بأنه رسول الله وشرح الصدر وختم النبوة وخدمة الملائكة والحور عند ولادته وأكرم بالنبوة في عالم الأرواح قبل الولادة والصباوة وكفى بذلك اختصاصاً وتفضيلاً :
٣٣٠
شمسه نه مسند وهفت اختران
ختم رسل خواجه يغمبران
﴿الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى﴾ الإنجيل ﴿وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى﴾ مع ذلك ﴿مُبَارَكًا﴾ نفاعاً معلماً للخير أخبر عما يكون لا محالة بصيغة الماضي والجمهور على أن عيسى آتاه الله الإنجيل والنبوة في الطفولية وكان يعقل عقل الرجال كما في "بحر العلوم".
يقول الفقير المشهور أنه أوحى الله إليه بعد الثلاثين فتكون رسالته متأخرة عن نبوته يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا} حيثما كنت فإنه لا يتقيد باين دون اين ﴿وَأَوْصَـانِى بِالصَّلَواةِ﴾ أي : أمرني بها أمراً مؤكداً ﴿وَالزَّكَواةِ﴾ أي : زكاة المال ملكية.
يقول الفقير : الظاهر أن إيصاءه بها لا يستلزم غناء بل هي بالنسبة إلى أغنياء أمته وعموم الخطايات الإلهية منسوب إلى الأنيباء تهييجاً للأمة على الائتمار والانتهاء ﴿مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ في الدنيا.
قال في "بحر العلوم : فيه دلالة بينة على أن العبد ما دام حياً لا يسقط عنه التكاليف والعبادات الظاهرة فالقول بسقوطها كما نقل عن بعض الإباحيين كفر وضلال.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٩
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أنه ما دام العبد حياً لا بد من مراقبة السر وإقامة العبودية وتزكية النفس.
يقول الفقير : إقامة التكاليف عبودية وهي إما للتزكية كالمبتدئين وإما للشكر كالمنتهين وكلا الأمرين لا يسقط ما دام العبد حياً بالغاً فإذا تغير حاله بالجنون ونحوه فقد عذر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٩
﴿وَبَرَّا﴾ (مهربان) ﴿بِوَالِدَتِى﴾ عطف على مباركاً أي : جعلني باراً بها محسناً لطيفاً وهو إشارة إلى أنه بلا فحل ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا﴾ متكبراً.
وبالفارسية (كرد نكشى متعظم كه خلق را تكبر كنم وانسانرا بر نجانم) ﴿شَقِيًّا﴾ عاصياً لربه.