ولله عباد خوطبوا فصار كلهم اذناً وشهدوا فصار كلهم عيناً ووجدوا في الرحيل حتى حطوا الرحل عند الملك الجليل :
نظرت في الراحة الكبرى فلم أرها
تنال إلا على جنس من التعب
والجد منها بعيد في تطلبها
فكيف تدرك بالتقصير واللعب
قال الشيخ أبو الحسن المزين رحمه الله : دخلت البادية على التجريد حافياً حاسراً فخطر ببالي أنه ما دخل بهذه البادية في هذه السنة أحد أشد تجريداً مني فجذبني إنسان من ورائي وقال : يا حجام كم تحدث نفسك بالأباطيل فظهر أن الترك والتجرد والرجوع في الحق على مراتب ولكل سالك خطوة فلا يغتر أحد بحاله ولا يخطر العجب بباله.
وعن إبراهيم الخواص قدس سره قال : دخلت البادية فأصابتني شدة فكابدتها وصابرتها فلما دخلت مكة داخلني شيء من الإعجاب فنادتني عجوز من الطواف يا إبراهيم كنت معك في البادية فلم أكلمك لأني لم أرد أن أشغل سرك عنه أخرج هذا الوسواس عنك فظهر أن التوفيق للرجوع إلى الله
٣٣٥
إنما هو من الله وكل كمال فبحوله وقوته ونصرته ومعونته.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٤
﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي : اتل يا محمد على قومك في السورة أو القرآن قصة إبراهيم وبلغها إياهم كقوله تعالى :﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وذلك أن أهل الملل كانوا يعترفون بفضله ومشركو العرب يفتخرون بكونهم من أبنائه فأمر الله تعالى حبيبه عليه السلام أن يخبرهم بتوحيده ليقلعوا عن الشرك ﴿إِنَّه كَانَ صِدِّيقًا﴾ ملازماً للصدق في كل ما يأتي وما يذر مبالغاً فيه قائماً في جميع الأوقات ﴿نَبِيًّا﴾ خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي : كان جامعاً بين الصديقية والنبوة وذلك أن الصديقية تلو النبوة ومن شرطها أن لا يكون نبياً إلا وهو صديق وليس من شرط الصديق أن يكون نبياً.
ولأرباب الصدق مراتب صادق وصدوق وصديق فالصادق من صدق في قيامه مع الله بالله وفي الله وهو الفاني عن نفسه والباقي بربه.
والفرق بين الرسول والنبي أن الرسول من بعث لتبليغ الأحكام ملكاً كان أو إنساناً بخلاف النبي يفإنه مختص بالإنسان.
﴿إِذْ قَالَ﴾ بدل من إبراهيم بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها أي : اذكر وقت قوله :﴿لابِيهِ﴾ آزر متلطفاً في الدعوة مسهلاً له يا اأَبَتِ} أي : يا أبي فإن التاء عوض عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان أي : لا يقال يا أبتي ولا يقال يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ﴾ ثناءك وتضرعك له به عند عبادتك له وما عبارة عن الصور والتماثيل ولام الإضافة التي دخلت على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بمَ، وعلامَ، وفيمَ، وإلامَ، وممَ، وعمَ، حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد وقل استعمال الأصل ﴿وَلا يُبْصِرُ﴾ خضوعك وخشوعك بين يديه ﴿وَلا يُغْنِى عَنكَ﴾ أي : لا يقدر على أن ينفعك ﴿شَيْـاًا﴾ لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو مصدر أي : شيئاً من الإغناء وهو القليل منه أو مفعول به أي : ولا يدفع عنك شيئاً من عذاب الله تعالى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٥
يا اأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى} بطريق الوحي ﴿مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى﴾ ولا تستنكف عن التعلم مني ﴿أَهْدِكَ﴾ (ما بنماييم ترا) ﴿صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ أي : مستقيماً موصلاً إلى أعلى المراتب منجياً من الضلال لم يشافهه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولم يصف نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل جعل نفسه في صورة رفيق له في مسير يكون أعرف وذلك من باب الرفق واللطف.
يا اأَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ} فإن عبادتك للأصنام عبادة له إذ هو الذي يزينها لك ويغريك عليها ﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيًّا﴾ ومن جملة عصيانه اباؤه عن السجدة ومعلوم أن طاعة العاصي تورث النقم وزوال النعم والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه.
يا اأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ} إن مت على ما أنت عليه من متابعة الشيطان وعصيان الرحمن ﴿إِنَّ﴾ أي : من أن ﴿يَمَسَّكَ﴾ يصيبك.
وبالفارسية (بر سيد بتو) ﴿عَذَابٌ﴾ كائن ﴿مِّنَ الرَّحْمَـانِ﴾ وذلك الخوف للمجاملة ﴿فَتَكُونَ﴾ (س باشى) ﴿لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا﴾ أي : قريناً له في اللعن المخلد أو قريباً تليه ويليك من الولي وهو القرب.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٥
﴿قَالَ﴾ استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه هذه النصائح الواجبة القبول فقيل قال مصراً على عناده ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يا اإِبْرَاهِيمُ﴾ أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن
٣٣٦