ومنها المتابعة قال أبو القاسم : الطريق إلى الحق المتابعة من علت مرتبته اتبع الكتاب ومن نزل عنهم اتبع الرسول عليه السلام ومن نزل عنهم اتبع الصحابة رضي الله عنهم ومن نزل عنهم اتبع أولياء الله والعلماء بالله وأسلم طرق إلى الله الطريق الاتباع لأن سهل بن عبد الله قال : أشد ما على النفس الاقتداء فإنه ليس للنفس فيه نفس ولا راحة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٦
ومنها العزلة قال أبو القاسم : من أراد السلامة في الدنيا والآخرة ظاهراً وباطناً فليعتزل قرناء السوء وأخدان السوء ولا يمكنه ذلك إلا بالالتجاء والتضرع إلى ربه في ذلك ليوفقه لمفارقتهم فإن المرء مع من أحب.
قال بعض الكبار : العزلة سبب لصمت اللسان فمن اعتزل عن الناس لم يجد من يحادثه فأداه ذلك إلى صمت اللسان وهي على قسمين : عزلة المريدين بالأجسام عن الأغيار وعزلة المحققين بالقلوب عن الأكوان فليست قلوبهم محالاً لغير علم الله الذي هو شاهده الحاصل فيها من المشاهدة ونية أهل العزلة إما اتقاء شر الناس وإما اتقاء شره المتعدي إليهم وهو أرفع من الأول إذ سوء الظن بالنفس أولى من سوء الظن بالغير وإما إيثار صحبة المولى على صحبة السوى فأعلى المعتزلين من اعتزل عن نفسه إيثاراً لصحبة ربه فمن آثر العزلة على المخالطة فقد آثر ربه على غيره ولم يعرف أحد ما يعطيه الله من المواهب والأسرار والعزلة تعطي صمت اللسان لا صمت القلب إذ قد يتحدث المرء في نفسه بغير الله ومع غير الله فلهذا جعل الصمت ركناً برأسه من أركان الطريق وحال العزلة التنزيه عن الأوصاف سالكاً كاد المعتزل يكون صاحب يقين مع الله تعالى حتى لا يكون له خاطر متعلق بخارج بيت عزلته والهجرة سبب للعزلة عن الأشرار من هاجر في طلب رضى الله أكرمه الله في الدنيا والآخرة.
فعلى العاقل أن يجتهد في تحصيل الرضى بالهجرة والخلوة والعزلة ونحوها، قال الصائب :
در مشرب من خلوت اكر خلوت كوراست
بسيار به از صحبت ابناى زمانست
ومنها : أن من فارق محبوبه ابتغاء لمرضاة الله تعالى فإن الله تعالى يجعل له بدلاً خيراً من ذلك وأحب فيأنس به ويتوحش عما ألف به فيما مضى فيحصل الحل والعقد على مراد الله اللهم اجعلنا من المنقطعين إليك والمستوحشين عما سواك والسالكين إلى سبيل الفناء والطالبين لرضاك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٦
﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مُوسَىا﴾ قدم ذكره على إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب
٣٣٨
﴿إِنَّه كَانَ مُخْلَصًا﴾ أخلصه الله من الادناس والنقائص ومما سواه وهو معنى الفتح الموافق للصديق فإن أهل الإشارة قالوا : إن الصادق والمخلص بالكسر من باب واحد وهو التخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق والمخلص بالفتح من باب واحد وهو التخلص أيضاً من شوائب الغيرية.
قال في "التأويلات النجمية" : اعلم أن الإخلاص في العبودية مقام الأولياء فلا يكون ولي إلا وهو مخلص ولا يكون كل مخلص ولياً ولا يكون رسولاً إلا وهو نبي ولا يكون كل نبي رسولاً والمخلص بكسر اللام من أخلص نفسه في العبودية بالتزكية عن الأوصاف النفسانية الحيوانية والمخلص بفتح اللام من أخلصه الله بعد التزكية بالتحلية بالصفات الروحانية الربانية كما قال النبي عليه السلام :"من أخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" وقال تعالى :"الإخلاص سرّ بيني وبين عبدي لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل أنا الذي أتولى تحلية قلوب المخلصين بتجلي صفات جمالي وجلالي لهم" وفي الحقيقة لا تكون العبودية مقبولة إلا من المخلصين لقوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة : ٥) ولإخلاص المخلصين مراتب أدناها أن تكون العبوديةخالصة لا يكون لغير الله فيها شركة وأوسطها أن يكون العبد مخلصاً في بذل الوجودإلى الله وأعلى درجة المخلصين أن يخلصهم من حبس وجودهم بأن يفنيهم عنهم ويبقيهم بوجوده ﴿وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا﴾ أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم رسولاً مع كونه أخص وأعلى.
يقول الفقير : تأخير نبياً لأجل الفواصل.
﴿وَنَـادَيْنَـاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ﴾ الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن في الأصل خلاف الأيسر أي : جانب اليمن وهو صفة للجانب أي : ناديناه من ناحيته اليمنى وهي التي تلي يمين موسى إذ لا يمين للجبل ولا شمال أو من جانبه الميمون من اليمن ومعنى ندائه منه أنه تمثل له الكلام من تلك الجهة.
وقال في "الجلالين" : أقبل من مدين يريد مصر فنودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى ﴿وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا﴾ تقريب تشريف مثل حاله بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته حيث كلمه بغير واسطة ملك ونجياً أي : مناجياً حال من أحد الضميرين في ناديناه والمناجاة (راز كفتن) كما في "التهذيب" يقال ناجاه مناجاة ساره كما في "القاموس".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٨


الصفحة التالية
Icon