واعلم أن تيسير أسباب الشهوات ليس من أمارة الخير وعلامة النجاة في الآخرة ومن ثمة امتنع عمر رضي الله عنه من شرب ماء بارد بعسل وقال : اعزلوا عني حسابها.
وقال وهب بن منبه : التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر : من أين؟ فقال : أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي وقال الآخر : أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد والشهوة في الأصل التمني ومعناها بالفارسية (آرزو خواستن) والمراد بها في الآية المشتهيات المذمومة.
والفرق بين الهوى والشهوة أن الهوى هو المذموم من جملة الشهوات والشهوة قد تكون محمودة وهي من فعل الله تعالى وهي ما يدعو الإنسان إلى الصلاح وقد تكون
٣٤٤
مذمومة وهي من فعل النفس الأمارة بالسوء وهي استجابتها لما فيه لذاتها البدنية ولا عبادةأعظم وأشرف من مخالفة الهوى والشهوات وترك اللذات، قال الشيخ سعدي :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٤٤
مبر طاعت نفس شهوت يرست
كه هر ساعتش قبله ديكرست
مرو درى هره دل خواهدت
كه تمكين تن نورجان كاهدت
كند مردرا نفس اماره خوار
اكر هو شمندى عزيزش مدار
﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ أي : شراً فإن كل شر عند العرب غي فكل خير رشاد.
وعن الضحاك جزاء غي كقوله تعالى ﴿يَلْقَ أَثَامًا﴾ (الفرقان : ٦٨) أي : جزاء أثام.
وقيل غي واد من جهنم يستعيذ من حره أوديتها أعد للزاني وشارب الخمر وآكل الربا وشاهد الزور ولأهل العقوق وتارك الصلاة.
﴿إِلا مَن تَابَ﴾ رجع من الشرك والمعاصي ﴿وَءَامَنَ﴾ اختيار الإيمان مكان الكفر ﴿وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾ بعد التوبة والندم فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ بموجب الوعد المحتوم ﴿وَلا يُظْلَمُونَ﴾ لا ينقصون من جزاء أعمالهم ﴿شَيْـاًا﴾ ولا يمنعونه فالظلم بمعنى النقص والمنع وشيئاً مفعوله ويجوز أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي : ولا يظلمون البتة شيئاً من الظلم.
﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾ بدل من الجنة بدل البعض لأن الجنة تشتمل على جنات عدن وما بينهما اعتراض وجنات عدن علم لجنة مخصوصة كشهر رمضان وقد يحذف المضاف حيث يقال جاء رمضان وقيل جنات عدن علم لدار الثواب جميعها والعدن الإقامة وهو الأنسب بمثل هذا المقام فإن جنة عدن المخصوصة وجنة الفردوس لا يدخلهما العوام بالأصالة لأنهما مقام المقربين ﴿الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَـانُ عِبَادَهُ﴾ أي : وعدها إياهم ملتبسة ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي : وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها وإنما آمنوا بها بمجرد الاخبار والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى.
وفي الإضافة إشارة إلى أن المراد من يعبده مخلصاً له في العبودية لا يعبد الدنيا والنفس والهوى إذ كمال التشريف بالإضافة إنما يحصل بهذا المعنى فله جنة عدن المخصوصة ﴿إِنَّهُ﴾ أي : الله تعالى ﴿كَانَ وَعْدُهُ﴾ أي : موعوده الذي هو الجنة ﴿مَأْتِيًّا﴾ أي : يأتيه من وعد له لا محالة بغير خلف فالمأتي بمعنى المفعول من الإتيان أو بمعنى الفاعل أي : جائياً ألبتة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٤٤
﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا﴾ في تلك الجنات ﴿لَغْوًا﴾ أي : فضول كلام لا طائل تحته وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها.
وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن ﴿إِلا سَلَـامًا﴾ استثناء منقطع أي : لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً﴾ (بامداد) ﴿وَعَشِيًّا﴾ (شبانكاه) والمراد دوام الرزق كما يقال أنا عند فلان صباحاً ومساء يراد الدوام منه وقيل يؤتى طعامهم على مقدار البكرة والعشي إذ لا نهار ثمة ولا ليل بل هم في نور أبداً وإنما وصف الله الجنة بذلك لأن العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشي.
قال الإمام في تفسيره فإن قيل المقصود من الآيات وصف الجنة بأمور مستعظمة وليس وصول الرزق بكرة وعشياً منها قلنا قال الحسن : أراد أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس
٣٤٥
الحرير الذي كان عادة العجم والأرائك التي كانت عادة أشراف اليمن ولا شيء أحب إلى العرب من الغداء والعشاء.
قال في "التأويلات النجمية" :﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا﴾ من رؤية الله تعالى ﴿بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ كما جاء في الخبر :"وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشياً" انتهى.


الصفحة التالية
Icon