﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى الجنة المذكورة المتقدمة يريد تلك التي بلغك وصفها وسمعت بذكرها ﴿الْجَنَّةُ﴾ قال في "الإرشاد" : مبتدأ وخبر جيء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ويجوز أن يكون الجنة صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة وخبره قوله :﴿الَّتِى نُورِثُ﴾ أي : نورثها ونعطيها بغير إختيار الوارث ﴿مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾ مجتنباً عن الشرك والمعاصي مطيعاًأي : نبقيها عليهم بتقواهم ونمتعهم بها كما نبقي على الوارث مال مورثه ونمتعه به.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف قال نورث والميراث ما انتقل من شخص إلى شخص والجواب أن هذا على وجه التشبيه أراد أن الأعمال سبب لها كالنسب ملك بلا كسب ولا تكلف وكذا الجنة عطاء من الله ورحمة منه خلافاً للقدرية انتهى.
والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث أنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا إبطال ولا إسقاط.
قال في "الأشباه" : لو قال الوراث تركت حقي بطل حقه انتهى.
وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادة في كرامتهم.
قال المولى الفناري في تفسير الفاتحة : اعلم أن الجنات ثلاث :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٤٤
الأولى جنة اختصاص إلهي وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل وحدهم من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا ومن أهلها أهل التوحيد العلمي ومن أهلها أهل الفترات ومن لم تصل إليهم دعوة رسول.
والجنة الثانية : جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا من المؤمنين وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.
والجنة الثالثة : جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر سواء كان الفاضل بهذه الحال دون المفضول أو لم يكن فما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها ورد في الحديث الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال لبلال :"يا بلال بمَ سبقتني إلى الجنة فما وطئت منها موضعاً إلا سمعت خشخشتك أمامي" فقال : يا رسول الله ما أحدثت قط إلا توضأت وما توضأت إلا صليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "بهما" فعلمنا أنها كانت جنة مخصوصة بهذا العمل فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما ينبغي في زمان صومه وصدقته بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس له ذلك نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الطاعة.
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾.
قال مجاهد : أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه فقال له عليه السلام :"ما حبسك يا جبرائيل" قال : وكيف آتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاتكون ثم قرأ
٣٤٦
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ كما في "أسباب النزول" و"سفينة الأبرار" وفي الحديث :"نقوا براجمكم" وهي مفاصل الأصابع والعقد التي على ظهرها يجتمع فيها الوسخ واحدها برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة والجمع رواجب وذلك مما يلي ظهرها وهو قصبة الأصبع فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن له برجمة وراجبتين فأمر بتنقيته لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة ذكره القرطبي.
وقال بعض المفسرين : هو حكاية لقول جبريل حين استبطأه رسول الله لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسة عشر فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل ببيان ذلك قال له :"أبطأت عليّ حتى ساء ظني واشتقت إليك" فقال جبريل : إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله هذه الآية وسورة والضحى.
والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع للتنزيل والمعنى قال الله لجبريل : قل لمحمد وما نتنزل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على تقتضيه حكمته.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٤٤
﴿لَهُ﴾ أي : بالاختصاص ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ من الأمور الأخروية الآتية ﴿وَمَا خَلْفَنَا﴾ من الأمور الدنيوية الماضية ﴿وَمَا بَيْنَ ذَالِكَ﴾ ما بين ما كان وما سيكون أي : من هذا الوقت إلى قيام الساعة.


الصفحة التالية
Icon