﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى﴾ كلام مستأنف سبق لبيان حال المهتدين أثر بيان حال الضالين أي : ويزيد الله المؤمنين إيماناً وعملاً ويقيناً ورشداً كما زاد الضالين ضلالاً ومدهم في استدراجهم ﴿وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ﴾ كلام مستأنف وارد من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخل في حيز الكلام الملقن لقوله تعالى :﴿عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا﴾ هو الجزاء لأنه نفع يعود إلى المجزى وهو اسم من الإثابة أو التثويب أي : الأعمال التي تبقى عائدتها أبداً خير عند ربك من مفاخرات الكفار وحظوظهم العاجلة ﴿وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾ مرجعاً وعاقبة لأن مآلها رضوان الله والنعيم الدائم ومآل هذه السخط والعذاب المقيم.
وقال الكاشفي يعني (اكر كافر انرا دفردنيا جاه ومال است ودر آخرت وبال ونكال خواهدشد اما مؤمن دردنيا هم هدايت دارندوهم حمايت ودر آخرت هم ثواب خواهند داشت وهم حسن المآب) :
بدنيى سر فراز ونام دارند
بعقبى كامدار وكام كارند
ففي الآية إشارة إلى أن الضرر القليل المتناهي الذي يعقبه نفع كثير غير متناه كما هو حال المؤمنين خير من عكسه كما هو حال الكافرين فإمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله كما أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله تعالى أراد به ما هو خير له وعوضه منه.
واعلم أن الباقيات الصالحات هي أعمال الآخرة كلها ومنها الكلمات الطيبة.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : جلس رسول الله عليه السلام ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال :"إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمدليحط الخطايا كما يحط ورق
٣٥٣
هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٥٢
وفي "التأويلات النجمية" : الباقيات الصالحات هي الأعمال الصالحات التي هي من نتائج الواردات الإلهية التي ترد من عند الله إلى قلوب أهل الغيوب يعني كل عمل يصدر من عند نفس العبد من نتائج طبعه وعقله لا يكون من الباقيات الصالحات يدل عليه قوله ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل : ٩٦) انتهى.
فعلى العاقل أن يجتهد في إصلاح النفس وتزكيتها ليتولد منها الأعمال الباقية والأحوال الفاضلة ويحصل له نسل بلا عقم ونكاح منتج قواناً الله وإياكم في ذلك آمين.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٥٢
﴿أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بآياتنا﴾ نزلت فيمن سخر بالبعث وهو العاص بن وائل كان لخباب بن الأرت عليه مال فتقاضاه فقال له لا حتى تكفر بمحمد فقال لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين نبعث قال : وإذا بعثت جئتني فيكون لي مال وولد فأعطيك والهمزة للتعجب من حاله والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن يرى ويقضي منها العجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا التي من جملتها آيات البعث ﴿وَقَالَ﴾ مستهزئاً بها مصدراً كلامه باليمين الفاجرة ﴿لاوتَيَنَّ﴾ في الآخرة إن بعثت يعني (بمن دهند) ﴿مَالا وَوَلَدًا﴾ أي : أنظر إليه يا محمد فتعجب من حالته البديعة وجراءته الشنيعة.
﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ﴾ همزته استفهام وأصله أأطلع من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع الثنية.
والمعنى أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به العليم الخبير حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وأقسم عليه ﴿أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْدًا﴾ أو اتخذ من عالم الغيب عهداً بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين علم الغيب وعهد من عالمه وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد الموثق عليه ﴿كَلا﴾ ليس الأمر على ما يقول.
﴿سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ﴾ ستحفظ عليه ما يقول من الكذب والكفر والاستهزاء فنجازيه به ﴿وَنَمُدُّ لَه مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي : نطول له من العذاب ما يستحقه.


الصفحة التالية
Icon