﴿إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ نصب على أنه مفعول له لأنزلنا معطوف على تشقى بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدراك المستفاد من الاستثناء المنقطع فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين إلا من حيث البدلية أو العطف كأنه قيل ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه ولكن تذكيراً وموعظة لمن يعلم الله منه أن يخشى بالتذكرة والتخويف وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلاً لفاعل الفعل المعلل وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لقوله تعالى :﴿لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان : ١) لأنهم المنتفعون بها.
قال في "الكبير" ويدخل تحت قوله :﴿لِّمَن يَخْشَى﴾ الرسول لأنه في الخشية والتذكرة فوق
٣٦٢
الكل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿تَنزِيلا﴾ أي : نزل القرآن تنزيلاً ﴿مِّمَّنْ﴾ متعلقة بتنزيلاً ﴿خَلَقَ﴾ أخرج من العدم إلى الوجود ﴿الارْضَ وَالسَّمَـاوَاتِ الْعُلَى﴾ تخصيص خلقهما لأنهما قوام العالم وأصوله وتقديم الأرض لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا تأنيث الأعلى للدلالة على عظم قدرة خلقها بعلوها وعطف السموات على الأرض من عطف الجنس على الجنس لأن التعريف مصروف إلى الجنس لا من عطف الجمع على المفرد حتى يلزم ترك الأولى من رعاية التطابق بين المعطوف والمعطوف عليه.
﴿الرَّحْمَـانُ﴾ رفع على المدح أي : هو الرحمن أو مبتدأ واللام فيه للعهد مشاراً به إلى من خلق خبره ما بعده ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ الذي يحمله الملائكة متعلق بقوله :﴿اسْتَوَى﴾ اعلم أن العرش سرير الملك والاستواء الاستقرار والمراد به ههنا الاستيلاء ومعنى الاستيلاء عليه كناية عن الملك لأنه من توابع الملك فذكر اللازم وأريد الملزوم يقال استوى فلان على سرير الملك على قصد الاخبار عنه بأنه ملك وإن لم يقعد على السرير المعهود أصلاً فالمراد بيان تعلق إرادته الشريفة بإيجاد الكائنات وتدبير أمرها إذ الباري مقدس الانتقال والحلول وإنما خلق العرش العظيم ليعلم المتعبدون إلى أين يتوجهون بقلوبهم بالعبادة والدعاء في السماء كما خلق الكعبة ليعلموا إلى أين يتوجهون بأبدانهم في العبادة في الأرض (وشيخ أكبر قدس سره در فتوحات فرموده كه استواء خداوند بر عرش در قرآنست ومراد بدين ايمانست تأويل نجوييم كه تأويل دلارين باب طغيانست بظاهر قبول كنيم وبباطن تسليم كه اين اعتقاد سفيانست اما ميدانم كه نه محتاج مكانست ونه عرش بر دارنده اوست كه اوست بر دارنده مكان ونكه دارنده عرش) :
نى مكان ره يافت سويش نه زمان
نى بيان دارد خبرزو نه عيان
اين همه مخلوق حكم داورست
خالق عالم زعالم بر ترست
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٦١
قال بضهم ليس على الكون من أثر ولا على الأثر من كون.
قال بعضهم : إنا نقطع بأن الله منزه عن المكان والإلزم قدم المكان وقد دل الدليل على أن لا قديم سوى الله تعالى وأنه تعالى لم يرد من الاستواء الاستقرار والجلوس بل مراده به شيء آخر إلا أنا لا نشتغل بتعيين ذلك المراد خوفاً من الخطأ ونفوض تأويل المتشابهات إلى الله تعالى كما هو رأى من يقف على ﴿إِلا اللَّهُ﴾ (محمد : ١٩) وعليه أكثر السلف كما روي عن مالك وأحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة وما كان مقصود الإمامين الأجلين بذلك إلا المنع من الجدال وقد أحسنا حيث حسما بذلك باب الجدال وكذلك فعل الجمهور لأن في فتح باب الجدال ضرراً عظيماً على أكثر عباد ا لله تعالى.
وقد روي أن رجلاً سأل عمر رضي الله عنه عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة.
وقال بعض كبار المحققين من أهل الله تعالى المراد بهذا الاستواء استواؤه سبحانه لكن لا باعتبار نفسه وذاته تعالى علواً كبيراً عما يقول الظالمون من المجسمة وغيرهم بل باعتبار أمره الإيجادي وتجليه الحسي الأحدي وإنما كان العرش محل هذا الاستواء لأن التجليات الذاتية التي هي شروط التجليات المتعينة والأحكام الظاهرة والأمور البارزة والشئون المتحققة
٣٦٣


الصفحة التالية
Icon