ـ يروى ـ أن إمام الحرمين رفع الله درجته في الدارين نزل ببعض الأكابر ضيفاً فاجتمع عنده العلماء والأكابر فقام واحد من أهل المجلس فقال : ما الدليل على تنزيهه تعالى عن المكان وهو قال :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فقال : الدليل عليه قول يونس عليه السلام في بطن الحوت :﴿لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ (الأنبياء : ٨٧) فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الإمام : إن ههنا فقيراً مديوناً بألف درهم أد عنه دينه حتى أبينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما ذهب في المعراج إلى ما شاء الله من العلى قال هناك :"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ولما ابتلي يونس عليه السلام بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال :﴿لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ فكل منهما خاطب بقوله أنت وهو خطاب الحضور فلو كان هو في مكان لما صح ذلك فدل ذلك على أنه ليس في مكان.
فإن قلت فليكن في كل مكان.
قلت : قد أشرت إلى أنه في كل مكان بآثار صفاته وأنوار ذاته لا بذاته كما أن الشمس في كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها ولو كان في كل مكان بالمعنى الذي أراده جهالة المتصوفة فيقال فأين كان هو قبل خلق هذه العوالم ألم يكن له وجود متحقق فإن قالوا لا فقد كفروا وإن قالوا بالحلول والانتقال فكذلك لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور كمالاته فيه لكن لا من حيث أنه حادث مطلقاً بل من حيث أن وجوده مستفاض منه فافهم.
فإن قلت فإذا كان تعالى منزهاً عن الجهة والمكان فما معنى رفع الأيدي إلى السماء وقت الدعاء؟ قلت : معناه الاستعطاء من الخزانة لأن خزائنه تعالى في السماء كما قال :﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات : ٢٢) وقال :﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ (الحجر : ٢١) فثبت أن العرش مظهر استواء الصفة الرحمنية وإن من يثبت له تعالى مكاناً فهو من المجسمة ومنهم جهلة المتصوفة القائلون بأنه تعالى في كل مكان ومن يليهم من العلماء الزائغين عن الحق الخارجين عن طريق العقل والنقل والكشف فمثل مذهبهم وقذره كمثل مذهبهم وقذره فنعوذ بالله تعالى من التلوث بلوث الجهل والزيغ والضلال ونعتصم به عما يعصم من الوهم والخيال والحق حق والأشياء أشياء ولا ينظر إلى الحق بعين الأشياء إلا من ليس في وجهه حياء.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٦١
﴿لَه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من الموجودات الكائنة في الجو دائماً كالهواء والسحاب أو أكثرياً كالطير أي : له تعالى وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالاً كل ما ذكر ملكاً وتصرفاً وإحياء وإمانة وإعداماً
٣٦٥
﴿وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ الثرى التراب الندي أي : الرطب والأرض كما في "القاموس" ويجوز الحمل على كليهما في هذا المقام فإن ظاهر الأرض تراب جاف وما هو أسفل منه تراب مبتل.
فإن قلت الثرى إذا كان محمولاً على السطح الأخير من العالم فما الذي تحته حتى يكون الله تعالى مالكاً له.
قلت : هو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات وقال بعضهم أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى كما لا يعلم أحد ما فوق السدرة إلا هو أي : الذي هو التراب الرطب مقدار خمسمائة عام تحت الأرض ولولا ذلك لأحرقت النار الدنيا وما فيها كما في "إنسان العيون".
قال الكاشفي :(زمين بردوش فرشته ايست وقدمين فرشته بر صخره ايست وصخره برشاخ كاوى وقوائم كاو برشت ما هي ازحوض كوثر وما هي ثابت است بر بحر وبحر بر جهنم مبنى بر ريح وريح بر جابي از ظلمت وآن حجاب بر ثرى وعلم أهل آسمان وزمين تاثرى بيش نرسد وما تحت الثرى جز حق سبحانه نداند) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الأرضين على ظهر النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة المذكورة في سورة لقمان في قوله :﴿فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ﴾ والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله تعالى وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوفه فإذا وقعت في جوفه يبست ذكره البغوي.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٦١