﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ﴾ أي : إن تعلن بذكره تعالى ودعائه.
فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك وإعلانك ﴿فَإِنَّهُ﴾ تعالى ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ يقال فلان يحسن إلى الفقراء لا يراد حال ولا استقبال وإنما يراد جود الإحسان منه في جميع الأزمنة والأوقات ومنه قوله ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ علمهما منه مستمر دائم وذلك أن علمه تعالى منزه عن الزمان كما هو منزه عن المكان بأسره فالتغيير على المعلوم لا على العلم عندنا والسر واحد الأسرار وهو ما يكتم ومنه أسرّ الحديث إذا أخفاه وتنكير أخفى للمبالغة في الخفاء أي : يعلم ما أسررته إلى غيرك وشيئاً أخفى من ذلك وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوّه به أصلاً وما أسررته في نفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيما سيأتي أي : ما يلقيه الله في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك وهذا إما نهي عن الجهر كقوله تعالى :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ (الأعراف : ٢٠٥) وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لاسماعه بل لغرض آخر من تصور النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة عنها وهضمها بالتضرع والجؤار وإيقاظ الغير ونشر البركات إلى مدى صوته وتكثير إشهاد ونحو ذلك وجاء أنه عليه السلام لما توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله فقال عليه السلام :
٣٦٦
"أربعوا على أنفسكم" أي : ارفقوا بأنفسكم لا تبالغوا في رفع أصواتكم "إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم" ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين أمره عليه السلام برفع الأصوات بالتلبية وقد يقال المنهى عنه هنا الرفع الخارج عن العادة الذي ربما آذى بدليل قوله عليه السلام أربعوا على أنفسكم أي : أرفقوا بها كذا في "إنسان العيون".
يقول الفقير : إنما نهى النبي عليه السلام أصحابه عن رفع الصوت إخفاء لأمره عن العدو ولأن أكثر أصحابه كانوا أرباب أحوال فشأنهم الاعتدال بل الإخفاء إلا لضرورة قوية كما في إزاء العدو أو اللصوص تهييباً لهم ولا شك أن أعدى العدو النفس وأشد اللصوص الشيطان ولذا اعتاد الصوفية بجهر الذكر تهييباً لهما وطرداً للوسوسة وقد اختار الحكماء للسلطان جهارة الصوت في كلامه ليكون أهيب لسامعيه وأوقع في قلوبهم كما في "العقد الفريد".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٦١
وفي "التأويلات النجمية" : السر باصطلاح أهل التحقيق لطيفة بين القلب والروح وهو معدن أسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها ولهذا قال عقيب قوله :﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إله إِلا هُوَ﴾ الآية إشارة إلى أن مظهر ألوهية صفاته العليا إنما هو الخفي الذي هو أخفى من السر أي : ألطف وأعز وأعلى وأشرف وأقرب إلى الحضرة ألا وهو سر وعلم آدم الأسماء كلها وهو حقيقة قوله عليه السلام :"إن الله خلق آدم فتجلى فيه".
ثم اعلم أن لطيفة السر التي بين القلب والروح تكون موجودة في كل إنسان عند نشأته الأولى والخفي ينتشيء عند نشأته الأخرى فلذا يمكن أن يكون كل إنسان مؤمن أو كافر معدن أسرار الروحانية وجملتها المعقولات ولا يمكن إلا لمؤمن موحد أن يكون مهبط أنوار الربانية وأسرارها وملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية.
﴿اللَّهُ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله ﴿لا إله إِلا هُوَ﴾ لا معبود في الأرض ولا في السماء إلا هو دل على الهوية بهذا القول فإن هو كناية عن غائب موجود والغائب عن الحواس الموجود في الأزل هو الله تعالى وفيه معنى حسن وهو التعالي عن درك الحواس حتى استحق اسم الكناية عن الغائب من غير غيبة كما في "بحر العلوم".
يقول الفقير على هذا المعنى بنى الصوفية ذكرهم بالاسم هو إخفاء وجهراً اجتماعاً وانفراداً مع أن مرجعه هو الله فيكون في حكم الاسم المظهر ولا ينازع فيه إلا مكابر وفي الحديث "إن الله خلق ملكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة" كما في "التفسير الكبير" فعلم منه أن الركن الأعظم للعالم ودوام وجوده إنما هو الذكر فإذا انقطع الذكر انهدم العالم وكل فوت إنما هو من أجل ترك الذكر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٦١


الصفحة التالية
Icon