وفي "التأويلات النجمية" : أكاد أخفي الساعة وإتيانها وأخفى أحوال الجنة ونعيمها وأهوال النار وعذاب جحيمها لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار بل تكون خالصة لوجهي كما قال تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة : ٥) وفي ذلك تهديد عظيم للعباد وإظهار عزة وعظمة لنفسه إلا أنه سبقت رحمتي غضبي فما أخفيت الساعة وإتيانها ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى﴾ متعلقة بآتية وما بينهما اعتراض وما مصدرية أي : بسعيها وعملها خيراً كان أو شراً لتمييز المطيع من العاصي وتخصيص السعي بالذكر للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة.
﴿فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا﴾ أي : لا يمنعنك عن ذكر الساعة ومراقبتها ﴿مَن لا يُؤْمِنُ بِهَا﴾
٣٧١
أي : بالساعة هذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للكافر عن صد موسى عن الساعة لكنه في الحقيقة نهى له عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية من أصلها ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ مراده المبني على ميل النفس لا يعضده برهان سماوي ولا دليل عقلي.
وفي "الإرشاد" ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية ﴿فَتَرْدَى﴾ من الردى وهو الموت والهلاك أي : فتهلك فإن الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجي من أحوالها مستتبع للهلاك لا محالة والمراد بهذا النهي الأمر بالاستقامة في الدين وهو خطاب له والمراد غيره.
واعلم أن هذه الآيات والآتية بعدها دلت على أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وأنه سمع كلام الله تعالى.
فإن قيل بأي شيء علم موسى أنه كلام الله.
قيل : لم ينقطع كلامه بالنفس مع الحق كما ينقطع به مع المخلوق بل كلمه تعالى بمدد وحداني غير منقطع وبأنه سمع الكلام من الجوانب الستة وبجميع الأجزاء فصار الوجود كله سمعاً وكذا المؤمن في الآخرة وجه محض وعين محض وسمع محض ينظر من كل جهة وبكل جهة وعلى كل جهة وكذا يسمع بكل عضو من كل جهة وإذا شاهد الحق يشهده بكل وجه ليس في جهة من الجهات لا يحتجب سمعه وبصره بالجهات ويجوز أن يخلق الله تعالى علماً ضرورياً بذلك كما خلق لنبينا عليه السلام عند ظهور جبريل بغار حراء.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٧١
ثم اعلم أن للكلام مراتب فكلام هو عين المتكلم وكلام هو معنى قائم به كالكلام النفسي وكلام مركب من الحروف ومتعين بها وهو في عالمي المثال والحس بحسبهما فموسى عليه السلام قد تنزل له الكلام في مرتبة الأمر إلى مرتبة الروح ثم إلى مرتبة الحس ومن مشى على المراتب لم يعثر ألا ترى أن نبينا عليه السلام إذا نزل عليه الوحي كان يسمع في بعض الأحيان مثل صلصلة الجرس فإن التجلي الباطني لا يمنع مثل هذا.
فإن قلت لماذا كلم الله موسى حتى صار كليم الله دون سائر الأنبياء؟ قلت : لأن الجزاء إنما هو من جنس العمل وكان قد احترق لسانه عليه السلام عند الامتحان الفرعوني فجازاه الله بمناجاته اسماع كلامه :
هر محنتى مقدمه راحتى بود
شد همزبان حق وزبان كليم سوخت
رؤي بعضهم في النوم فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال رضي الله عني ورحمني وقال لي كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب فجوزي من حيث عمل حيث لم يقل له كل يا من قطع الليل تلاوة واشرب يا من ثبت يوم الزحف.
وقيل لبعضهم وقد رؤي يمشي في الهواء بم نلت هذه الكرامة؟ فقال : تركت هواي لهواه فسخر لي هواه فالعلم والحكمة إنما هي في معرفة المناسبات قضاء عقلياً وقضاء إلهياً وحكمياً ومن قال إن الله تعالى يفعل خلاف هذا فليس عنده معرفة بمواقع الحكم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٧١
﴿وَمَا تِلْكَ﴾ السؤال بما تلك عن ماهية المسمى أي : حقيقته التي هو بها هو كقولك ما زيد تعني ما حقيقة مسمى هذا اللفظ فيجاب بأنه إنسان لا غير.
قال الكاشفي :(ون موسى نعلين بيرون كرد در وادي مقدس خطاب رسيدكه) وما تلك أي : أي شيء هذه حال كونها مأخوذة ﴿بِيَمِينِكَ يا مُوسَى﴾ فما استفهامية في حيز الرفع بالخبرية لتلك المشار إليها أي : العصا وهو أوفق بالجواب من عكسه والعامل في الحال
٣٧٢
معنى الإشارة ولم يقل بيدك لاحتمال أن يكون في يساره شيء مثل الخاتم ونحوه فلو أجمل إليه لتحير في الجواب للاشتباه وسيأتي سر الاستفهام إن شاء الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon