ـ روي ـ أنه حين ألقاها انقلبت حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وعظمت فلذلك شبهت بالجان تارة وهو الخفيف كما قال تعالى :﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ (النمل : ١٠) أي : باعتبار ابتداء حالها وسميت ثعباناً أخرى وهو أعظمها كما قال تعالى :﴿فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي : باعتبار انتهاء حالها وعبر عنها ههنا بالاسم العام للحالين أي : الصغير والكبير والظاهر أنها انقلبت من أول الأمر ثعباناً وهو الأليق بالمقام كما يفصح عنه قوله تعالى :﴿فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ (الأعراف : ٧) وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسرعة الحركة.
قال بعض أهل المعرفة أما انقلاب العصا حيواناً فإيماء إلى انقلاب المعصية طاعة وحسنة فإن العصا من المعصية والمعصية إذا انقلبت صارت طاعة كما قال تعالى :﴿إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْـاًا﴾ (الفرقان : ٧٠) وهذا التبديل من مقام المغفرة وأما المحو في قوله عليه السلام :"اتبع السيئة الحسنة تمحها" فعبارة عن حقيقة العفو.
قال المولى الجامي في قوله :﴿فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ﴾ يعني في الحكم فإن الأعيان أنفسها لا تتبدل ولكن تنقلب أحكامها انتهى.
يقول الفقير على هذا يدور انقلاب العصا حية حين الإلقاء ويحول النحاس فضة عند طرح الأكسير وتمثل جبريل في الصورة البشرية فاعرفه فإن باب عظيم من دخله بالعرفان التام أمن من الأوهام، قال الحافظ :
٣٧٥
دست ازمس وجود و مردان ره بشوى
تا كيمياى عشق بيابى وزر شوى
وقال المولى الجامي :
و كسب علم كردى در عمل كوش
كه علم بى عمل زهريست بى نوش
ه حاصل زآنكه دانى كيميارا
مس خودرا نكرده زرسارا
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٧٢
﴿قَالَ﴾ استئناف بياني ﴿خُذْهَا وَلا تَخَفْ﴾ روي أنها انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع كل شيء يمر به من صخر وحجر وعيناه تتقدان كالنار ويسمع لأنيابه صريف شديد وكان بين لحييه أربعون ذراعاً أو ثمانون لما رآه كذلك خاف ونفر لأن الخوف والهرب من الحيات ونحوها من طباع البشر.
فإن قيل لم خاف موسى من العصا ولم يخف إبراهيم من النار؟ قلنا : لأن الخليل كان أشد تمكيناً إذ فرق بين بداية الحال ونهايتها وقد أزال الله هذا الخوف من موسى بقوله : ولا تخف ولذا تمكن من أخذ العصا كما يأتي فصار أهل تمكين كالخليل عليهما السلام ألا ترى أن نبينا عليه السلام أول ما جاءه جبريل خافه فرجع من الجبل مرتعداً ثم كان من أمره ما كان حتى استعد لرؤيته على صورته الأصلية ليلة المعراج كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى﴾ (النجم : ١٣ ـ ١٤).
وفي "التأويلات النجمية" ﴿خُذْهَا وَلا تَخَفْ﴾ يعني كنت تحسب أن لك فيها المنافع والمآرب في البداية ثم رأيتها وأنت خائف من مضارها خذها ولا تخف لتعلم أن الله تعالى هو الضار والنافع فيكون خوفك ورجاؤك منه إليه لا من غيره، وفي "المثنوي" :
هركه ترسيد از حق وتقوى كزيد
ترسد ازوى جن وأنس وهركه ديد
﴿سَنُعِيدُهَا﴾ (زود باشدكه كردانيم ويرا) ﴿سِيَرتَهَا الاولَى﴾ السيرة فعلة من السير أي : نوع منه تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الجار أي : سنعيدها بعد الأخذ إلى هيئتها الأولى التي هي الهيئة العصوية فوضع يده في فم الحية فصارت عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها فيه إذا توكأ وأراه هذه الآية كيلا يخاف عند فرعون إذا انقلبت حية وفي الحديث "يجاء لصاحب المال الذي لم يؤد زكاته بذلك المال على صورة ثعبان" يقول الفقير : لا شك عند أهل المعرفة أن لكل جسد روحاً ولو كان معنوياً ولكل عمل وخلق ووصف صورة معتدلة في الدنيا تتحو صورة محسوسة في الآخرة كما قال تعالى :﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام : ١٠٨) أي : يظهر لهم صور أعمالهم كما مر في سورة الأنعام ولما كان حب المال من أشد صفات النفس الأمارة التي هي في صورة ثعبان ضار لا جرم يظهر يوم تبلى السرائر على هذا الصورة المزعجة ويصير طوقاً لعنق صاحبه فإذا تزكى موسى القلب من حب المال وأحب بذله في سبيل الله جاء في صورة حسنة يهواها مناسبة لما عمل به من الخيرات وقس حال البواقي عليه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٧٦
ثم أراه آية أخرى فقال :
﴿وَاضْمُمْ﴾ (ضم كن وببر) ﴿يَدَكَ﴾ اليمنى ﴿إِلَى جَنَاحِكَ﴾ (بسوى بهلوى خود درزير بغل) وجناح الإنسان جنبه وعضده إلى أصل إبطه كما أن جناحي العسكر ناحيتاه مستعار من جناحي الطائر وقد سميا جناحين لأنه يجنحهما أي : يميلها عند الطيران.
والمعنى اضمم يدك إلى جنبك تحت العضد ﴿تَخْرُجْ﴾ (تابيرون آيد جواب) ﴿بَيْضَآءَ﴾ (در حالتى كه سفيد وروشن) حال من الضمير فيه
٣٧٦


الصفحة التالية
Icon