واعلم أن موسى بطريق الإشارة سلطاننا في الآفاق وروحنا في الأنفس وهارون هو الوزير أياً من كان في الآفاق والعقل في الأنفس وفرعون هو رئيس أهل الحرب من النصارى وغيرهم والنفوس الأمارة بالسوء فإذا قارن الروح بالعقل الكامل المشير المدبر وهو عقل المعاند يغلب على النفس وقواها ويخلص حصن القلب من أيديها كما أن السلطان إذا اصطفى لوزارته رجلاً صالحاً عادلاً يغلب إن شاء الله تعالى على الأعداء ويتصرف في بلادهم وحصونهم، وفي "المثنوي" :
عقل تو دستور مغلوب هواست
در وجودت رهزن راه خداست
واى آن شه كه وزيرش اين بود
جاى هردو دوزخ بركين بود
شاد آن شاهى كه اورا دستكير
باشد اندركار ون آصف وزير
شاه عادل ون قرين اوشود
نام او نور على نور اين بود
ون سليمان شاه وون آصف وزير
نور بر نورست وعنبر بر عبير
شاه فرعون وو هامانش وزير
هر دورا نبود زبد بختى كزير
س بود ظلمات بعضى فوق بعض
نى خرد يارو نه دولت روز عرض
عقل جزؤى را وزير خودمكير
عقل كل را ساز اى سلطان وزير
مر هوارا تو وزير خود مساز
كه بر آرد جان اكت از نماز
كين هوا ر حرص وحالى بين بود
عقل را انديشه يوم الدين بود
وفي الحديث :"من قلد إنساناً عملاً وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين"، قال الشيخ سعدي قدس سره :
كسى راكه باخواجه تست جنك
بدستش رامى دهى وب وسنك
سك آخر كه باشدكه خوانش نهند
بفرماى تا استخوانش نهند
مكافات موذى بمالش مكن
كه بيخش بر آورد بايد زبن
سركرك بايد هم اول بريد
نه ون كوسفندان مردم دريد
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ﴾ من قولهم من عليه منا بمعنى أنعم عليه لا من قولهم عليه منة بمعنى امتن عليه لأن المنة تهدم الصنيعة.
وفي "الكبير" : فإن قيل ذكر تلك النعم بلفظ المنة مؤذ والمقام مقام التلطف قلنا عرفه إنه لم يستحق شيئاً منها بذاته وإنما خصه بها بمحض التفضل والمعنى وبالله لقد أنعمنا عليك يا موسى أكرمناك بكرامات من غير أن تسألنا ﴿مَرَّةً أُخْرَى﴾ في وقت ذي مر وذهاب أي : وقتاً غير هذا الوقت فإن أخرى تأنيث آخر بمعنى غير والمرة في الأصل اسم للمر الواحد الذي هو مصدر قولك مر يمر مراً ومروراً أي : ذهب ثم أطلق
٣٨١
على فعلة واحدة من الفعلات متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متحدة فصار علماً في ذلك حتى جعل معياراً لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة المراد به ههنا الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي ذكره من المنن العظيمة الكثيرة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٠
﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ﴾ ظرف لمننا والمراد من هذا الوحي ليس الوحي الواصل إلى الأنبياء لأن أم موسى ما كانت من الأنبياء فإن المرأة لا تصلح للإمارة والقضاء فكيف تصلح للنبوة بل الإلهام كما في قوله تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل : ٦٨) بأن أوقع الله في قلبها عزيمة جازمة على ما فعلته من اتخاذ التابوت والقذف.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف يجوز لها أن تلقي ولدها في البحر وتخاطر بروحه بمجرد الإلهام؟ والجواب كانت مضطرة إلى ركوب أحد الخطرين فاختارت له خير الشرين انتهى والظاهر أن الله تعالى قدر أنها تكون صدف درة وجود موسى فكما أن الصدف يتنور بنور الدرة نور صدر أمه أيضاً بنور الوحي من تلألؤ أنوار نبوته ورسالته فهذا الإلهام من أحوال الخواص من أهل الحال ﴿مَا يُوحَى﴾ المراد به ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت والبحر أبهم أولاً تهويلاً له وتفخيماً لشأنه عليه السلام ثم فسر ليكون أقر عند النفس.


الصفحة التالية
Icon