﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ﴾ أن مفسرة بمعنى أي : لأن الوحي من باب القول أي : قلنا لها اقذفيه ومعنى القذف ههنا الوضع وفي قوله :﴿فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ﴾ الإلقاء وليس المراد القذف بلا تابوت واليم نيل مصر في قول جميع المفسرين فإن اليم يقع على البحر والنهر العظيم.
فإن قيل ما الحكمة بإلقاء موسى في اليم دون غيره فيه؟ قلنا : له جوابان بلسان الحكمة والمعرفة قيل : بلسان الحكمة إن المنجمين إذا ألقي شيء في الماء يخفى عليهم أمره فأراد الله أن يخفي حال موسى على النجمين حتى لا يخبروا به فرعون وقيل بلسان الحال ألقيه في التلف لأنجيه بالتلف من التلف قيل لها بلسان الحال سلميه إليّ صبياً أسلمه إليك نبياً وقيل أنجاه من البحر في الابتداء كذلك أنجاه من البحر في الانتهاء بإغراق فرعون بالماء.
وقال بعض أرباب المعارف : التابوت إشارة إلى ناسوت موسى عليه السلام أي : صورته الإنسانية واليم إشارة إلى ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم العنصري فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره جعل الله لها هذا القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده الله منها في تدبير هذا التابوت فرمى في اليم ليحصل له بهذا القوى من فنون العلم تكميل استعداده بذلك الأمر من النفس الكلية التي هي أمه المعنوية وأبوه الروح الكلي فكل ولد منها يأخذ استعداده بحسب القابلية فكمل لموسى الاستعداد الأصلي بذلك الإلقاء من توجه النفس الكلية له، وقال المولى الجامي قدس سره :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٠
ديدم رخت آفتاب عالم اينست
در طور وجود نور اعظم اينست
افتاد دلم اسير تابوت بدن
دربحر غمت القى في اليم اينست
﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر فصورته أمر ومعناه خبر والضمائر كلها لموسى والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان التابوت
٣٨٢
أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعاً له في ذلك.
والساحل فاعل بمعنى مفعول من السحل لأنه يسحل الماء أي : يقشره ويسلخه وينزع عنه ما هو بمنزلة القشر على ظاهره يقال قشرت العود نزعت عنه قشره ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ﴾ الجزم جواب للأمر بالالقاء وتكرير عدو للمبالغة أي : دعيه حتى يأخذه العدو فإني قادر على تربية الولي في حجر العدو ووقايته من شره بإلقاء محبة منه عليه.
فإن قيل كيف يجوز أن يكون مثل فرعون له رتبة معاداته تعالى حتى سمي عدو الله؟ قلنا معناه يأخذه مخالف لأمري كالعدو كذا في "الأسئلة المقحمة".
قالوا : ليس المراد بالساحل نفس الشاطىء بل ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون لما روى أنها جعلت في التابوت قطناً ووضعته فيه ثم أحكمته بالقير وهو الزفت لئلا يدخل فيه الماء وألقته في اليم وكان يدخل منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأتى به إلى بركة في البستان وكان فرعون جالساً ثمة مع آسية بنت مزاحم فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجهاً ولما وجده في اليم عنده الشجر سماه موسى و"مو" هو الماء بالقبطية و"سا" هو الشجر وأحبه حباً شديداً لا يكاد يتمالك الصبر عنه وذلك قوله تعالى :﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً﴾ عظيمة كائنة ﴿مِّنِّى﴾ قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ولذا أحبك عدو الله وآله.
ـ روي ـ إنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه.
ماه زيباست ولى روى تو زيباتر ازوست
شم نركس ه كنم شم تور عناتر ازوست
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً﴾ من محبتي ليحبك بمحبتي من أحبني بالتحقيق ويحبك عدوي وعدوك بالتقليد كما أن آسية أحبته بحب الله على التحقيق وفرعون أحبه لما ألقى الله عليه محبته بالتقليد ولما كانت محبة فرعون بالتقليد فسدت وبطلت بأدنى حركة رآها من موسى ولما كانت محبة آسية بالتحقيق ثبتت عليها ولم تتغير وهكذا يكون إرادة أهل التقليد تفسد بأدنى حركة لا تكون على وفق طبع المريد المقلد ولا تفسد إرادة المريد المحقق بأكبر حركة تخالف طبعه وهواه وهو مستسلم في جميع الأحوال :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٠
نشان اهل خدا عاشقى وتسليمست
كه درمريد شهر اين نشان نمى بينم
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى﴾ عطف على علة مضمرة لألقيت أي : ليتعطف عليك ولتربى بالحنو والشفقة ويحسن إليك وأنا راقبك ومراعيك وحافظك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به من قولهم صنع إليه معروفاً إذا أحسن إليه.
وعيني حال من الضمير المستتر في لتصنع لا صلة له جعل العين مجازاً عن الرعاية والحراسة بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب فإن الناظر إلى الشيء يحرسه مما لا يريد في حقه ويراعيه حسبما يريد فيه.