وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من أدركته العناية الأزلية يكون في جميع حالاته منظور نظر العناية لا يجري عليه أمر من أمور الدنيا والآخرة إلا وقد يكون له فيه صلاح وتربية إلى أن يبلغه درجة ومقاماً قد قدر له.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٠
﴿إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ﴾ مريم ظرف لتصنع على أن المراد به وقت وقع فيه مشيها إلى بيت فرعون وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالبر والحنو وهو المصداق لقوله
٣٨٣
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى﴾ إذ لا شفقة أعظم من شفقة الام.
قال ابن الشيخ تقييد التربية بزمان مشي أخته صحيح لأن التربية إنما وقعت زمان المشي ورده إلى أمه ﴿فَتَقُولُ﴾ أي : لفرعون وآسية حين رأيتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدياً وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية أي : قالت :﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ (آيا دلالت كنم شمارا) أي : حاضران ﴿عَلَى مَن يَكْفُلُهُ﴾ (بركسي له تكفل أي طفل كند واوراشير دهد) أي يضمه إلى نفسه ويربيه وذلك إنما يكون بقبول ثديها.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣
ـ يروى ـ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً من النيل لا يرضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت مريم لتعرف خبره فجاءتهم منكرة فقالت ما قالت وقالوا من هي : قالت : أمي قالوا : ألها لبن؟ قالت : نعم لبن أخي هارون فجاءت بها فقبل ثديها ﴿فَرَجَعْنَـاكَ إِلَى أُمِّكَ﴾ الفاء فصيحة معربة عن محذوف قبلها يعطف عليه ما بعدها أي : فقالوا : دلينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها أي : رددناك، وبالفارسية :(س بازكر دانيديم ترابسوى ما درتو وبوعده وفا كرديم) وهو قوله :﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وذلك لأن إلهامها كان من إلهام الخواص الذي بمنزلة الوحي فلا تستبعد عليها هذه المكالمة المعنوية ويجوز أن يكون ذلك من قبيل الإعلام بالمبشرة ﴿كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ (تاشايدكه روشن شود شم مادر بلقاء تو).
وقال بعضهم : تطيب نفسها بلقائك يقال قرت عينه إذا بردت نقيض سخنت هذا أصله ثم استعير للسرور وهو المراد ههنا كما في "بحر العلوم" ﴿وَلا تَحْزَنَ﴾ على فقدك، وبالفارسية :(واندو هناك كردد بفراق تو).
قال في "الكبير" فإن قيل :﴿وَلا تَحْزَنَ﴾ فضل لأن السرور يزيل الغم لا محالة قلنا تقر عينها بوصولك إليها ولا تحزن بوصول لبن غيرها إلى باطنك انتهى.
وفي "الإرشاد" أي : لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية متقدمة على التحلية انتهى.
يقول الفقير : الواو لمطلق الجمع وأيضاً أن الثاني لتأكيد الأول فلا يرد ما قالوا ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾ هي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه كما يأتي في سورة القصص ﴿فَنَجَّيْنَـاكَ مِنَ الْغَمِّ﴾ أي : غم قتله خوفاً من عقاب الله بالمغفرة ومن اقتصاص فرعون بالأنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين ﴿وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا﴾ الفتنة والفتون المحنة وكل ما شق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة ولا يطلق الفتان على الله لأنه صفة ذم عرفاً وأسماء الله توقيفية.
فإن قيل : كيف يجوز ذكر الفتن عند ذكر النعم؟ قلنا : الفتنة تشديد المحنة ولما أوجب تشديد المحنة كثرة الثواب عده الله في النعم ألا ترى إلى قوله عليه السلام :"ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" وقد فسره البعض بقوله ما صفى نبي مثل ما صفيت والمعنى ابتليناك ابتلاء.
وقال بعضهم : طحناك بالبلاء طحناً، وبالفارسية :(وبياز موديم ترا آزمودنى يعني ترادر بوته بلاها افكنديم وخالص بيرون آمدى) ومن ابتلائه قتله القبطيّ ومهاجرته من الوطن ومفارقة الأحباب والمشي راجلاً وفقد الزاد ونحو ذلك مما وقع قبل وصوله إلى مدين بقضية الفاء الآتية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣
وفي "التأويلات النجمية" : منها فتنة صحبتك مع فرعون وتربيتك مع قومه فحفظناك من التدين بدينهم.
ومنها : فتنة قتل نفس بغير الحق وفرارك من فرعون بسبب قتل القبطي فنجوت منها.
٣٨٤
ومنها : ابتليناك بابنتي شعيب واحتياجهما إليك في سقي غنمهما فلولا حفظناك لملت إليهما ميل البشر للنساء.
ومنها : ابتليناك بخدمة شعيب وصحبته واستئجاره فوفقناك للخروج من عهدة حقوقه وعهوده.