قال بعض الكبار : اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه به فأول ما ابتلاه الله به قتل القبطي بما ألهمه الله في سره وأن يعلم بذلك الإلهام ولكن كان فيه علامة ذلك وهو إن لم يجد في نفسه مبالاة بقتله فعدم مبالاته بقتله مع عدم انتظاره الوحي علامة كونه ملهماً به في السر وألا ينبغي أن يعتريه وحشة عظيمة من ذلك الفعل.
وإنما قلنا إنه عليه السلام كان ملهماً في قتل القبطي لأن باطن النبي معصوم من أن يميل إلى أمر ولم يكن مأموراً به من عند ربه وإن كان في السر ولكون النبي معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتى يخبر بأن ذلك الأمر مأمور به في السر أراه الخضر حين قصد تنبيهه على ما ذهل عنه من كونه ملهماً بقتل القبطي قتل الغلام فأنكر عليه قتله ولم يتذكر قتله القبطي فقال له الخضر : ما فعلته عن أمري ينبهه على مرتبته قبل أن ينبأ أنه كان معصوم الحركة في قتله في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك وأراه أيضاً خرق السفينة الذي ظاهره هلاك وباطنه نجاة من يد الغاصب جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان في اليم مطبقاً عليه فإن ظاهره هلاك وباطنه نجاة وإنما فعلت به أمه ذلك خوفاً من يد الغاصب فرعون أن يذبحه مع الوحي الذي ألهمها الله من حيث لا تشعر فوجدت في نفسها أنها ترضعه فإذا خافت عليه ألقته في اليم وغلب على ظنها أن الله ربما رده إليها لحسن ظنها به وقالت حين ألهمت ذلك لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يده فعاشت وسرت بهذا التوهم والظن بالنظر إليها إذ لم يكن عندها دليل يفيد العلم بذلك وهذا التوهم والظن علم باعتبار أن متعلقه حق مطابق للواقع متحقق في نفس الأمر ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ﴾ عشر سنين ﴿فِى أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ أي : عند شعيب لرعي الأغنام لأن شعيباً أنكحه بنته صفوراء على أن يخدمه ثماني سنين فخدمه عشراً قضاء لأكثر الأجلين كما يأتي في سورة القصص ومدين على ثماني مراحل من مصر وذكر اللبث دون الوصول إليهم إشارة إلى مقاساة شدائد أخرى في تلك السنين كإيجار نفسه ونحوه مما كان من قبيل الفتون.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣
وفي "التأويلات النجمية" :﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ لتستحق بتربية شعيب وملازمته النبوة والرسالة، قال الحافظ :
شبان وادى ايمن كهى رسد بمراد
كه ند سال بجان خدمت شعيب كند
يقول الفقير : انظر كيف أن الله تعالى جعل في الأمر المكروه أمراً محبوباً فإن قتل القبطي ساق موسى إلى خدمته شعيباً إلى أن استعد للنبوة وقس على هذا ما عداه وإذا كانت النبوة مما يقدم لها الخدمة مع كونها اختصاصاً إلهياً فما ظنك بالولاية ﴿ثُمَّ جِئْتَ﴾ أي : الوادي المقدس بعد ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة ونحوها ﴿عَلَى قَدَرٍ﴾ تقدير قدرته لأن أكلمك واستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة وفي الحديث :"ما بعث الله نبياً إلا على رأس أربعين سنة" كما في "بحر العلوم" وأورده البعض في الموضوعات لأن عيسى عليه السلام نبىي ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين ونبىء يوسف عليه السلام في البئر وهو ابن ثماني عشرة وكذا يحيى عبد الله أوتي
٣٨٥
الحكم وهو صبي فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء كما في "المقاصد الحسنة" يا مُوسَى} كرره تشريفاً له عليه السلام وتنبيهاً على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية.
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى﴾ تذكير لقوله ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ أي : اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فهو تمثيل لما أعطاه تعالى من الكرامة العظمى بتقريب الملك بعض خواصه واصطناعه لنفسه وترشيحه لبعض أموره الجليلة.
وقال الكاشفي :(وترا بر كزيديم وخالص ساختيم براى محبت خود يعنى ترا دوست كرفتيم).
وفي "حواشي" ابن شيخ أي : اخترتك لتحبني وتتصرف على إرادتي ومحبتي وتشتغل بما أمرتك من إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لوجهي لا لنفسك ولا لغيرك.
والاصطناع افتعال من الصنع بالضم وهو مصدر قولك صنع إليه معروفاً واصطناع فلان اتخاذه صنيعاً محسناً إليه بتقريبه وتخصيصه بالتكريم والإجلال.
عن القفال قال : اصطنعتك أصله من قولهم اصطنع فلان فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان كما يقال هذا جريح فلان.
وفي "القاموس" واصطنعتك لنفسي اخترتك لخاصة أمر استكفيكه انتهى وحقيقته جعله عليه السلام مرآة قابلة لأنوار صفات الجمال والجلال.
وفيه إشارة إلى أن الخواص إنما خلقوا لأجل هذا المعنى الخاص وأما غيرهم فبعضهم للدنيا وبعضهم للآخرة فالخواص هم عباد الله حقاً وقد تخلصوا من شوب الميل إلى الباطل وهو ما سوى الله تعالى، قال لبيد :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣
ألا كل شيء ما خلا الله باطل


الصفحة التالية
Icon