وكل نعيم لا محالة زائل وفي الحديث "إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه" فالصبر تجرع المرارات عند نزول المصيبات والرضى سرور القلب بمر القضايا فالعبد الذي أراد الله اصطفاءه يجعله في بوتقة البلاء أولاً فيخلص جوهره مما سواه فطريق هذا المنزل صعب جداً، قال المولى الجامي :
مكوكه قطع بيانان عشق آسانست
كه كوههاى بلا ريك آن بيانانست
اللهم اجعلنا من الصابرين الشاكرين الراضين الواصلين.
﴿اذْهَبْ أَنتَ﴾ يا موسى والذهاب المضي يقال ذهب بالشيء وأذهبه ويستعمل ذلك في الأعيان والمعاني قال تعالى :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى﴾ (الصافات : ٩٩) وقال :﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ (هود : ٧٤) ﴿وَأَخُوكَ﴾ أي : وليذهب أخوك هارون حسبما استدعيت عطف عليه لأنه كان غائباً عن موسى وقتئذٍ.
والأخوة المشاركة في الولادة من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع ويستعار الأخ لكل مشارك لغيره في القبلة أو في الدين أو في صنعة أو في معاملة أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات ﴿بِـاَايَـاتِى﴾ بمعجزاتي والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة لا مجرد إذهابهما وإيصالهما إليه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الآيات التسع التي أنزلت عليه وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقباً بعد.
ويحتمل أن يكون الجمع للتعظيم والمراد العصا واليد.
أو لما أن أقل الجمع عند الخليل اثنان يعني إن إطلاق الآيات على الآيتين وارد على الأدنى ﴿وَلا تَنِيَا﴾ لا تفترا، وبالفارسية :(وسستى ميكنيد) من ونى يني ونيا فهو وإن مثل وعد يعد وعداً فهو وأعد بمعنى فتر يفتر فتوراً ﴿فِى ذِكْرِى﴾ أي : في مداومته
٣٨٦
على كل حال لساناً وجناناً فإنه آلة لتحصيل كل المقاصد فإن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فالفتور في الأمور بسبب الفتور في ذكر الله وهو تذكير لقوله :﴿كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾.
قال بعضهم : الحكمة في هذا التكليف أن من ذكر جلال الله تعالى وعظمته استخف غيره فلا يخاف أحداً غيره فيتقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في مقصود.
قال مرجع طريقتنا الجلوتية بالجيم حضرة الهدايى قدس سره التوحيد قبل الوعظ باعث لإصغاء السامعين وموجب للتأثير بعون الله الملك القدير.
وفي "العرائس" : لا تغيباً عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري حتى تكونا فاترين بي عني.
وفي "الإرشاد" : في ذكرى أي : بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ انتهى.
يقول الققير : أهل الشهود ليسوا بغائبين عن المشهود.
ففي الآية إشارة إلى إدامة الأوراد وتنبيه للطالبين في الجد والاجتهاد ونعم ما قيل :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣
يا خاطب الحوراء في حسنها
شمر فتقوى الله في مهرها
وكن مجداً لا تكن وانيا
وجاهد النفس على صبرها
قال الخجندي :
بكوش تا بكف آرى كليد كنج وجود
كه بى طلب نتوان يافت كوهر مقصود
وقال المولى الجامي :
بي طلب نتوان وصالت يافت آرى كى دهد
دولت حج دست جز راه بيابان برده را
وقال الحافظ :
مقام عيش ميسر نميشود بى رنج
بلى بحكم بلا بسته اند حكم ألست
ـ روي ـ أنه تعالى لما نادى موسى بالواد المقدس وأرسله إلى فرعون وأعطاه سؤله انطلق من ذلك الموضع إلى فرعون وشعيته الملائكة يصافحون وخلف أهله في الموضع الذي تركهم فيه (درتيسير آورده كه كسان موسى شب انتظار بردند ونيامد وروز نيز ازوى خبرى نيافتند دران صحرا متحير بماندند) فلم يزالوا مقيمين فيه حتى مر بهم راع من أهل مدين فعرفهم فحملهم إلى شعيب فمكثوا عنده حتى بلغهم خبر موسى بعدما جاوز ببني إسرائيل البحر وغرق فرعون قومه وبعث بهم شعيب إلى موسى بمصر.
ففيه إشارة إلى أن المؤمن إذا عرض له الأمران أمر الدنيا وأمر الآخرة يختار أمر الآخرة فإنه أمر الله تعالى ألا ترى أن موسى عليه السلام لم ينظر وراءه حين أمر بالذهاب إلى فرعون ولم يلتفت إلى الأهل والعيال بل ولم يخطر بباله سوى الحكيم الفعال إذ يكفيه أن الله خليفته في كل أمر من أموره وقت غيبته وحضوره ومثله إبراهيم عليه السلام حين ترك إسماعيل وأمه هاجر بأرض مكة وهي يومئذٍ أرض قفر ولا ماء بها ولا نبات امتثالاً لأمر الله تعالى من غير اعتراض وانقباض وهكذا تكون المسارعة في هذا الباب.
وسمعت من شيخي وسندي قدس سره أنه نام نومة الضحى يوماً في مدينة فلبه من البلاد الرومية فأمر بالهجرة إلى مدينة قسطنطينية فلما استيقظ توضأ وصلى فلم يلبث لحظة حتى خرج راجلاً وترك الأهل والعيال في تلك المدينة حتى كان ما كان على ما استوفيناه في كتابنا الموسوم "بتمام الفيض"، قال الحافظ :
٣٨٧
خرم آن روزكه زين مرحله بربندم رخت
وزسر كوى تورسند رفيقان خبرم
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣