﴿إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ﴾ من جهة ربنا وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك قد يكون بالكلام الخفي على لسان جبريل وقد يكون بالإلهام وبالمنام والوحي إلى موسى بوساطة جبريل وإلى هارون بوساطته ووساطة موسى ﴿أَنَّ الْعَذَابَ﴾ أي : كل العذاب لأنه في مقابله السلام أي : كل السلام وهو العذاب الدنيوي والأخروي الدائم لأن العذاب المتناهي كلا عذاب فلا يرد أنه يلزم قصر العذاب على المكذبين مع أن غيرهم قد يعذبون ﴿عَلَى مَن كَذَّبَ﴾ بآياته تعالى وكفر بما جاء به الأنبياء عليهم السلام والكذب يقال في المقال وفي الفعال ﴿وَتَوَلَّى﴾ إذا عدي بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك الولي أي : القرب فالمعنى أعرض عن قبولها بمتابعة الهوى وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه.
يقول الفقير : إن كلاً من تكذيب الرسوم والحقائق سبب العذاب والهوان مطلقاً فكفار الشريعة كفار الرسوم والحقائق جميعاً فلهم عذاب جسماني وروحاني وكفار الحقيقة كفار الآيات الحقيقية فلهم هوان معنوي فالنعيم والعزة في الإطاعة والاتباع والاستسلام كما أن الجحيم والذل في خلافها.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٢
ـ حكي ـ أن بعض السادات لما رأى عبد الله بن المبارك في عزة ورفعة مع جماعة قال : انظروا إلى حال آل محمد وعزة ابن المبارك فقال ابن المبارك : إن سيدنا لما لم يراع سنة جده ذل وابن المبارك لما أطاع النبي عليه السلام وسار سيرته أعطاه الله عزاً وشرفاً.
واعلم أن عزة فرعون وشرفه انقلبا ذلاً وهواناً بسبب تكذيب موسى وإعراضه عن قبول دعوته وهامان وإن كان سبباً صورياً في امتناعه عن القبول ونكوله عن الانقياد لكن لم يكن له في أصل جبلته استعداد لقبول الحق فلا يغرنكم عزة الدنيا مع عدم الإطاعة لأنه ينقلب يوماً ذلاً وخسراناً وكثيراً ما وقع في الدنيا ورأيناه فاقبل النصيحة مع مداومة مجلس العلم وإلا فعند ظهور الحق ووجود الاستعداد والقابلة لا يبقى غير الاستسلام وإن منعه العالم بأسره عن ذلك ألا ترى أن النجاشي ملك الحبشة لما علم علماً جازماً أن الرسول حق اتبعه من غير خوف من أحد من العالمين ومبالاة لكلام أحد في ذلك فنجا من العذاب نجاة أبدية ثم اعلم أنه كما أن للأنبياء معجزات فكذا للأولياء كرامات والعلمية منها هي التي حق اعتبارها فإن الكونية مما يشترك فيه الملتان فالكرامات العلمية آيات الأولياء جاءوا بها من الله من طريق الكشف الصحيح فمن اتبع هداهم بقبول آياتهم الهادية إلى عالم الحقيقة فقد سلم من الإنكار مطلقاً صورياً أو معنوياً ونجا من العذاب قطعاً صورياً أو معنوياً وهو عذاب القطيعة والبعد ودخل المكذب في النار مع الداخلين والعجب أن الأنبياء والأولياء مع كونهم رحمة من الله على عباده إذ لا نعمة فوق "الإرشاد" وإيصال المريدين إلى المراد لم يدر جاههم أكثر الناس ولم يوفق لاتباعهم إلا أقل من القليل وبقي البقية كالنسناس ولذا لم يمض قرن من القرون إلا والعذاب بالعصاة مقرون فانظر من أنت وما بغيتك فإن كنت تطلب النجاة فلا تجدها إلا في الإطاعة وخصوصاً في هذا الزمان المشوب بالجور والعدوان والفسق والعصيان والغالب على أهاليه الابتلاء بأنواع البلايا الموبقة وعلى تقدير الإطاعة والاتباع يلزم للمريد أن يخرج من البين ويجعل جل همه
٣٩٣
أن يصل إلى عالم العين ولا يطمع في شيء سوى الرضى الوافي والولاء الكافي.
قال حمدون القصار : القائمون بالأوامر على ثلاثة مقامات.
واحد يقوم إليه على العادة وقيامه قيام كسل.
وآخر يقوم إليه على طلب الثواب وقيامه قيام طمع.
وآخر يقوم إليه على المشاهدة فهو القائم بالله لا بنفسه لفنائه عن نفسه وغيره وهذا القسم من القيام بالأمر هو المؤدي إلى محبة الله الموصلة إلى العزة الباقية وسعادة الدارين فلا بد للعاقل من الاجتهاد، وفي "المثنوي" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٢
جهدكن تا نورتو رخان شود
تا سلوك وخدمتت آسان شود
كود كانرا مى يرى مكتب بزور
زانكهستند از فوائد شم كور
ون شود واقف بمكتب مى رود
جانش از رفتن شكفته مى شود
والله المعين في كل حين.


الصفحة التالية
Icon