عنه إما إنصراف بالذات أو بالقول والعزيمة وإعادة الشيء كالحديث وغيره تكريره ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ أي : عند البعث بتأليف الأجزاء وتسوية الأجساد ورد الأرواح للحساب والجزاء وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية.
والتارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة كما مر في المرة، قال الحكيم فردوسي :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٥
بخاكت در آرد خداوند اك
دكرره برون آرد از زير خاك
بدان حال كايى بخاك اندرون
بدان كونه از خاك آيى برون
اكر اك درخاك كيرى مقام
برآيى از واك واكيزه نام
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل جاء إلى النبي عليه السلام فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهو يقول مالي أراك مغموماً حزيناً؟ قال عليه السلام :"يا جبريل طال تفكيري في أمر أمتي يوم القيامة" قال : أفي أمر أهل الكفر أم في أمر أهل الإسلام؟ فقال :"يا جبريل في أمر أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله" فأخذ بيده حتى أقامه إلى مقبرة بني سلمة ثم ضرب بجناحه الأيمن على قبر ميت فقال : قم بإذن الله فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال جبريل : عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الأيسر فقال : قم بإذن الله فخرج رجل مسود الوجه أزرق العينين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل : عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم قال : يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تموتون كما تعيشون وتبعثون كما تموتون".
قيل ليحيى بن معاذ رضي الله عنه : ما بال الإنسان يحب الدنيا؟ قال : حق له أن يحبها منها خلق وهي أمه ومنها عيشه ورزقه فهي حياته وفيها يعاد فهي كفاته وفيها كسب الجنة فهي مبدأ سعادته وهي ممر الصالحين إلى الله تعالى كيف لا يحب طريقاً يأخذ بسالكه إلى جوار ربه.
واعلم أن من صفة الأرض الطمأنينة والسكون لفوزها بوجود مطلوبها فكانت أعلى مرتبة في عين السفل وقامت بالرضى فمقامها رضى وحالها تسليم ودينها إسلام وهكذا الإنسان الكامل في الدنيا فإن الله تعالى قد صاغه من قالب الأرض وهو وإن كان ترابي الأصل لكن طرح عليه اكسير الروح الأعظم فإذا طار الروح بقيت سبيكة الجسد على حالها كالذهب الخالص إذ لا تبلى نفوس الكمل.
قال في "أسئلة الحكم" : الأكثرون على تفضيل الأرض على السماء لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا فيها ودفنوا فيها وأن الأرض دار الخلافة ومزرعة الآخرة وأما الأرض الأولى فقال بعضهم : إنها أفضل لكونها مهبط الوحي ومشاهد الأنبياء وللانتفاع بها ولاستقرار الخلفاء عليها وغيرها من الفضائل انتهى.
يقول الفقير : كان الظاهر أن تفضل السماء لكونها مقر الأرواح العالية ولذا يبقى الجسد هنا بعد الوفاة ويعرج الروح ولكن فضل الأرض لأن أسباب العروج إنما حصلت بالآلات الجسدانية وهي من الأرض ولذا جعل عليه السلام الصلاة من الدنيا في قوله :"حبيب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة" وذلك لأن صورة الصلاة التي هي الأفعال والاذكار تحصل بالأعضاء والجوارح التي هي من الدنيا وعالم الملك وإن كان القلب
٣٩٧
والتوجه من عالم الملكوت نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتحققين بحقائق الأرض والمعرضين عن كل طول وعرض.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٥
﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا كُلَّهَا﴾ إضافة الآيات عهدية وكلها تأكيد لشمول الأنواع أي : وبالله لقد بصرنا فرعون على يدي موسى آياتنا كلها من العصا واليد وغيرهما على مهل من الزمان أو عرفناه صحتها وأوضحنا وجه الدلالة فيها ﴿فَكَذَّبَ﴾ بالآيات كلها من فرط عناده من غير تردد وتأخير وزعم أنها سحر ﴿وَأَبَى﴾ عن قبولها لعتوه والاباء شدة الامتناع فكل اباء امتناع وليس كل امتناع إباء.