﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ﴾ الفاء فصيحة واجمعوا من الإجماع يقال أجمع الأمر إذا أحكمه وعزم عليه وحقيقته جمع رأيه عليه وأجمع المسلمون كذا اجتمعت آراؤهم عليه.
قال الراغب : أكثر ما يقال فيما يكون جمعاً يتوصل إليه بالتدبير والفكرة.
والمعنى إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما ذكر من الإخراج والإذهاب فازمعوا مكركم وحيلكم في رفع هذا المزاحم واجعلوه مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وارموا عن قوس واحدة.
وقرىء فاجمعوا من الجمع ويعضده قوله تعالى :﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ أي : فاجمعوا أداوات سحركم ورتبوها كما ينبغي ﴿ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ أي : مصطفين في الموعد ومجتمعين ليكون أشد لهيبتكم وانظم لأمركم فجاءوا في سبعين صفاً كل صف ألف والصف أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار ونحو ذلك وقد يجعل بمعنى الصاف.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٩
قال في "الإرشاد" : لعل الموعد كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا بأن يأتوا وسطه
٤٠٠
على الوجه المذكور ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ افللاح الظفر وإدراك البغية والاستعلاء قد يكون طلب العلو المذموم وقد يكون طلب العلاء أي : الرفعة.
والآية تحتمل الأمرين جميعاً أي : وقد فاز بالمطلوب من غلب ونال علو المرتبة بين الناس.
قال في "الإرشاد" : يريدون بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب وبمن غلب أنفسهم جميعاً أو من غلب منهم حثالهم على بذل المجهود في المغالبة.
يقول الفقير فيه إشارة إلى أن المنهى من العلوم والأسباب كالسحر ونحوه ما يتقرب به إلى الدنيا وجمع طامها لا إلى الآخرة والفوز بنعيمها ولا إلى الله تعالى ولذا قال :﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ فكل من أراد أن يتوصل بما يفعله مما نهاه الشرع إلى درجة من الدرجات الأخروية أو مرتبة من المراتب المعنوية فإنه يضيع سعيه ولا يفلح ولا يبقى له سوى التعب.
ثم إن أرباب التقليد يقتفون آثار فرعون وسحرته ويقولون في حق أهل التحقيق إن هؤلاء يخرجونكم من مناصب شيخوختكم ومراتب قبولكم عند العوام ويصرفون وجوه الناس عنكم ويذهبون بأشراف قومكم من الملوك والأمراء وأرباب المعارف وأهل الدثور والأموال فيسلكون مسالك الحيل ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون أي : المشركون بالشرك الخفي، وفي "المثنوي" :
هركه برشمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وزاو
فالذي خلق علوياً كالشمس فإنه لا يكون سفلياً بوجه من وجوه الحيل وكذا التراب خلق سفلياً فإنه لا يكون سماوياً، قال المولى الجامي :
ستست قدر سفله اكر خود كلاه جاه
براوج سلطنت زند از كردش زمان
سفليست خاك اكره ته بر مقتضاى طبع
همراه كرد باد كشد سر بر آسمان
نسأل الله أن يجعلنا من أهل السعادة والفلاح.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٩
﴿قَالُوا﴾ أي : السحرة بعد إجماعهم وإتيانهم الموعد واصطفافهم.
قال الكاشفي :(سره بقولى سيصد هزار خروار حبل وعصاها ميان نهى كرده وير اززيبق ساخته بميدان آوردند بطريق ادب وكفتند) يا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ} الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي : تراه ثم صار في التعارف إسماً لكل طرح أي : تطرح عصاك من يدك على الأرض ﴿وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ ما نلقيه من العصي والحبال وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية مبتدأ محذوف أي : اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا أو الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا.
وفيه إشارة إلى أن السحرة لما أعزوا موسى عليه السلام بالتقديم والتخبير في الإلقاء أعزهم الله بالإيمان الحقيقي حتى رأوا بنور الإيمان معجزة موسى فآمنوا به تحقيقاً لا تقليداً وهذا حقيقة قوله :"من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" فلما تقربوا إلى الله بإعزاز من أعزه الله أعزهم بالإيمان تقرباً إليه فكذلك أعزهم موسى بالتقديم في الإلقاء كما حكى الله عنه بقوله :
﴿قَالَ﴾ موسى :﴿بَلْ أَلْقُوا﴾ أولاً ما أنتم ملقون.
يقول الفقير : الظاهر أن يالله تعالى ألهم السحرة التخيير وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً ليظهر الحق من الباطل لأن الحق يدفع الباطل ويمحوه ولو كان موسى أول من ألقى لتفرق الناس من أول الأمر خيفة الثعبان كا تفرقوا بعد ابتلاع العصا عصيهم وحبالهم وذا مخل بالمقصود.
قال الإمام فإن قيل كيف أمرهم به وهو سحر وكفر.
٤٠١


الصفحة التالية
Icon