ومنها : أن متاع الدنيا سبب الغرور والفساد والهلاك ألا ترى أن فرعون اغتر بدنياه فهلك وأن السامري صاغ من الحلي عجلاً فأفسد ولو لم يستصحبوها حين خرجوا من مصر لنجوا من عبادته والابتلاء بتوبته نسأل الله تعالى أن يهدينا هداية كاملة إلى جنابه ولا يردنا عن بابه ولا يبتلينا بأسباب عذابه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١٥
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـارُونُ مِن قَبْلُ﴾ أي : وبالله لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات يا قَوْمِ} (اى كروه من) ﴿إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ﴾ أي : أوقعتم في الفتنة بالعجل وأضللتم به على توجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا "الإرشاد" إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ﴾ المستحق للعبادة هو ﴿الرَّحْمَـانُ﴾ المنعم بجميع النعم لا العجل وإنما ذكر الرحمن تنبيهاً على أنهم إن تابوا قبل توبتهم وإذا كان الأمر كذلك ﴿فَاتَّبِعُونِى﴾ في الثبات على الدين ﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِى﴾ هذا واتركوا عبادة ما عرفتم شأنه وما أحسن هذا الوعظ فإنه زجرهم عن الباطل بقوله :﴿إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ﴾ وأزال الشبهات أولاً وهو كإماطة الأذى عن الطريق ثم دعاهم إلى معرفة الله بقوله :﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ﴾ فإنها الأصل ثم إلى معرفة النبوة بقوله :﴿فَاتَّبِعُونِى﴾ ثم إلى الشرائع فقال :﴿وَأَطِيعُوا أَمْرِى﴾ وفي هذا الوعظ شفقة على نفسه وعلى الخلق أما على نفسه فإنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن عند أخيه بقوله :﴿اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف : ١٤٢) فلو لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر لخالف أمر الله وأمر موسى وأنه لا يجوز.
أوحى الله إلى يوشع أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي وفي الحديث :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، قال الشيخ سعدي قدس سره :
بني آدم أعثاضى يكديكرند
كه در آفر ينش ريك كوهرند
و عضوى بدرد آورد روزكار
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١٥
دكر عضوها را نماند قرار
تو كز محنت ديكران بى غمى
نشايد كه نامت نهند آدمي
ثم إن هارون رأى المتهافتين على النار فلم يبال بكثرتهم ولا نفرتهم بل صرح بالحق :
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام :"أنت مني بمنزلة هارون من موسى" ثم إن هارون ما منعه التقية في مثل هذا الجمع العظيم بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره فلو كانت أمة محمد على الخطأ لكان يجب أن يفعل مثل ما فعل هارون وأن يصعد المنبر من غير تقية وخوف ويقول فاتبعوني وأطيعوا أمري فلما لم يقل كذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب وقد ثبت أن علياً أحرق الزنادقة الذين قالوا بآلهيته لما كانوا
٤١٧
على الباطل.
﴿قَالُوا﴾ في جواب هارون ﴿لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ﴾ لن نزال على العجل وعبادته ﴿عَـاكِفِينَ﴾ مقيمين.
قال الراغب : العكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم.
قال في "الكبير" رحمته تعالى خلصتهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوه بالتقليد فقالوا :﴿لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـاكِفِينَ﴾ ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ أي : لا نقبل حجتك وإنما نقبل قول موسى.
وقال في "الإرشاد" : وجعلوا رجوعه عليه السلام إليهم غاية لعكوفهم على عبادة العجل لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه بل بطريق التعلل والتسويف وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين تعويلاً على مقابلة السامري.
ـ روي ـ أنهم لما قالوه اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا.


الصفحة التالية
Icon