وفي "التأويلات النجمية" : لم يسمعوا قول هارون لأنهم عن السمع الحقيقي لمعزولون فلهذا ﴿قَالُوا لَن نَّبْرَحَ﴾ الخ وفيه إشارة إلى أن المريد إذا استسعد بخدمة شيخ كامل واصل وصحبه بصدق الإرادة ممتثلاً لأوامره ونواهيه قابلاً لتصرفات الشيخ في إرشاده يصير بنور ولايته سميعاً بصيراً يسمع ويرى من الأسرار والمعاني بنور ولاية الشيخ ما لم يكن يسمع ويرى ثم إن ابتلى بمفارقة صحبة الشيخ قبل أوانه يزول عنه نور الولاية أو يحتجب بحجاب ما ويبقى أصم وأعمى كما كان حتى يرجع إلى صحبة الشيخ ويتنور بنور ولايته.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١٥
﴿قَالَ﴾ استئناف بياني كأنه قيل فما قال لهارون حين سمع جوابهم له وهل رضي بسكوته بعدما شاهد منهم ما شاهد فقيل : قال له وهو مغتاظ وقد أخذ بلحيته ورأسه وكان هارون طويل الشعر يا هَـارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أخطأوا طريق عبودية الله بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بالمقالة الشنعاء.
﴿أَلا تَتَّبِعَنِ﴾ لا مزيدة وهو مفعول ثان لمنع وهو عامل في إذ أي : أي شيء منعك حين يؤيتك لضلالهم من أن تتبعني في الغضبوالمقاتلة مع من كفر به وأن تأتي عقبي وتلحقني وتخبرني لأرجع إليهم لئلا يقعوا في هلاك هذه الفتنة أو غير مزيدة على أن منعك مجاز عن دعاك.
والمعنى ما دعاك إلى ترك اتباعي وعدمه في شدة الغضبولدينه ونظير لا هذه قوله :﴿مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ﴾ (الأعراف : ١٢) في الوجهين.
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن موسى لما كان بالميقات مستغرقاً في بحر شواهد الحق ما كان يرى غير الحق ولم يكن محتجباً بحجب الوسائط حتى أن الله تعالى ابتلاه بالوسائط بقوله :﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ﴾ أضاف الفتنة إلى نفسه وأحال الإضلال إلى السامري اختباراً ليعلم منه أنه هل يرى غير الله مع الله في أفعاله الخير والشر فما التفت إلى الوسائط وما رأى الفعل في مقام الحقيقة على بساط القربة إلا منه وقال في جوابه :﴿إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ﴾ أضاف الفتنة والإضلال إليه تعالى مراعياً حق الحقيقة على قدم الشريعة إلى نور الحقيقة قال : يا هارون ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى﴾ أي : بالصلابة في الدين والمحاماة عليه كما عصى هؤلاء القوم أمري وأمر الله فإن قوله عليه السلام :﴿اخْلُفْنِى﴾ متضمن للأمر بهما حتماً فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضراً والهمزة للإنكار
٤١٨
التوبيخي والفاء عطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أخالفتني فعصيت أمري.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤١٨
﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ﴾ الأم بازاء الأب وهي الوالدة القريبة التي ولدته والبعيدة التي ولدت من ولدته ويقال لكل ما كان أصلاً لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه أم وأصله يا ابن أمي أبدل الياء ألفاً فقيل : يا ابن أما ثم حذف الألف واكتفى بالفتحة لكثرة الاستعمال وطول اللفظ وثقل التضعيف وقرىء يا ابن أم بالكسر بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وخص الأم بالإضافة استعظاماً لحقها وترقيقاً لقلبه واعتداداً لنسبها وإشارة إلى أنهما من بطن واحد وإلا فالجمهور عل أنهما لأب وأم.
قال بعض الكبار كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة كما قال تعالى :﴿وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا﴾ (مريم : ٥٣) ولذا ناداه بأمه إذ كانت الرحمة للام أوفر ولذا صيرت على مباشرة التربية.
وفي "التأويلات النجمية" : لما رأى هارون موسى رجع من تلك الحضرة سكران الشوق ملآن الذوق وفيه نخوة القربة والاصطفاء والمكاملة ما وسعه إلا التواضع والخشوع فقال : يا ابن أم ﴿لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى﴾ أي : بشعر رأسي وخاطبه بيابن أم لمعنيين أحدهما ليأخذه رأفة صلة الرحم فيسكن غضبه والثاني ليذكره بذكر أمه الحالة التي وقعت له في الميقات حين سأل ربه الرؤية فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً وجاء الملائكة في حال تلك الصعقة يجرون برأسه ويقولون يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب، قال الحافظ :
برو اين دام برمرغ دكرنه
كه عنقارا بلنداست آشيانه
وقال :
عنقا شكاركس نبود دام بازين
كآنجا هميشه بادبد سثست دام را
ـ روي ـ أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وغضبهوكان حديداً متصلباً في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ففعل ما فعل بمرأى من قومه أي : بمكان يراه قومه ويرون ما يفعل بأخيه ﴿إِنِّى خَشِيتُ﴾ لو قاتلت بعضهم ببعض وتفرقوا ﴿أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ﴾ برأيك وأراد بالتفريق ما يستتبعه القتال من تفريق لا يرجى بعده الاجتماع.