جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٣٠
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ﴾ يقال : عهد فلان إلى فلان بعهد أي : ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهداً وعهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا وتارة يكون بما أمرنا به بكتابه وبألسنة رسله وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور وما يجري مجراها وآدم أبو البشر عليه السلام قيل سمي بذلك لكون جسده من أديم الأرض وقيل لسمرة في لونه يقال رجل آدم نحو أسمر وقيل سمي بذلك لكونه من عناصر مختلفة وقوى مفترقة يقال جعلت فلاناً أدمة أهلي أي : خلطته بهم وقيل سمي بذلك لما طيب به من الروح المنفوخ فيه وجعل له من العقل والفهم والرؤية التي فضل بها على غيره وذلك من قولهم الإدام وهو ما يطيب به الطعام وقيل أعجمي وهو الأظهر والمعنى وبالله لقد أمرناه ووصيناه بأن لا يأكل من الشجرة وهي المعهودة ويأتي بيانه بعد هذه الآية ﴿مِّن قَبْلِهِ﴾ من قبل هذا الزمان ﴿فَنَسِىَ﴾ العهد ولم يهتم به حتى غفل عنه والنسيان بمعنى عدم الذكر أو تركه ترك المنسى عنه.
قال الراغب النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره وكل نسيان من الإنسان ذمه الله تعالى به فهو ما كان أصله عن تعمد وما عذر فيه نحو ما روى "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فهو ما لم يكن
٤٣٣
سببه منه ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا﴾ إن كان من الوجود العلمي فله وعزماً مفعولاه وقدم الثاني على الأول لكونه ظرفاً وإن كان من الوجود المقابل للعدم وهو الأنسب لأن مصب الفائدة هو المفعول وليس في الأخبار بكون العزم المعدوم له مزيد مزية فله متعلق به والعزم في اللغة توطين النفس على الفعل وعقد القلب على إمضاء الأمر.
والمعنى لم نعلم أو لم نصادف له تصميم رأى وثبات قدم في الأمور ومحافظة على ما أمر به وعزيمة على القيامة به إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطان ولما استطاع تغريره وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره من قبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها ويذوق شريها وأريها لا من نقصان عقله فإنه أرجح الناس عقلاً كما قال عليه السلام :"لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه" وقد قال الله تعالى :﴿وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا﴾ ومعنى هذا أن آدم مع ذلك أثر فيه وسوسته فكيف في غيره، قال الحافظ :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٣٣
دام سختست مكر لطف خدا يا رشود
ورنه آدم نبرد صرفه ز شيطان رجيم
قيل : لم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان فكان مؤاخذاً به وإنما رفع عنا.
وفي "التأويلات النجمية" :﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ﴾ أي : من قبل أن يكون أولاً وأن لا يتعلق بغيرنا ولا ينقاد لسوانا فلما دخل الجنة ونظر إلى نعيمها ﴿فَنَسِىَ﴾ عهدنا وتعلق بالشجرة وانقاد للشيطان ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا﴾ يشير إلى أن الله تعالى لما خلق آدم وتجلى فيه بجميع صفاته صارت ظلمات صفات خليقته مغلوبة مستورة بسطوات تجلى أنوار صفات الربوبية ولم يبق فيه عزم التعلق بما سواه والانقياد لغيره فلما تحركت فيه دواعي البشرية الحيوانية وتداعت الشهوات النفسانية الإنسانية واشتغل باستيفاء الحظوظ نسي أداء الحقوق ولهذا سمي الناس ناساً لأنه ناس فنشأت له من تلك العاملات ظلمات بعضها فوق بعض وتراكمت حتى صارت غيوم شموس المعارف وأستار أقمار العوارف فنسي عهود الله ومواثيقه وتعلق بالشجرة المنهي عنها.
قال العلامة : يا إنيسان عادتك النسيان أذكر الناس ناسسٍ وأرق القلوب قاسسٍ.
قال أبو الفتح البستي في الاعتذار من النسيان إلى بعض الرؤساء :
يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس
يا أحسن الخلق إعراضاً عن الباس
نسيت وعدك والنسيان مغتفر
فاغفر فأول ناس أول الناس
قال علي رضي الله عنه : عشرة يورثن النيسان : كثرة الهم، والحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل التفاح الحامض، وأكل الكزبرة، وأكل سؤر الفار، وقراءة ألواح القبور، والنظر إلى المصلوب، والمشي بين الجملين المقطورين، وإلقاء القملة حية كما في "روضة الخطيب" لكن في قاضي خان لا بأس بطرح القملة حية والأدب أن يقتلها.
وزاد في المقاصد الحسنة مضغ العلك أي : للرجال إذا لم يكن من علة كالبخر ولا يكره للمرأة إن لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن لأن سنها أضعف من سن الرجال كسائر أعضائها فيخاف من السواك سقوط سنها وهو ينقي الأسنان وتشد اللثة كالسواك.
واعلم أن من أشد أسباب النسيان العصيان فنسأل الله العصمة والحفظ.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٣٣
﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ أي : واذكر يا محمد وقت قولنا ﴿للملائكة﴾ أي : لمن في الأرض والسماء منهم عموماً كما سبق تحقيقه ﴿اسْجُدُوا لادَمَ﴾ سجود تحية
٤٣٤