والثالث أنه مخلوق من النار وآدم من الماء والتراب وبين أصليهما عداوة فبقيت العداوة فيهما ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ﴾ أي : لا يكونن سبباً لإخراجكما منها فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب وإلا فالمخرج حقيقة هو الله تعالى وظاهره وإن كان نهي إبليس عن الإخراج إلا أن المراد نهيهما من أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها بالطريق البرهاني ﴿فَتَشْقَى﴾ جواب للنهي وإسناد الشقاء إليه لرعاية الفواصل ولأصالته.
قال في المفردات الشقاوة خلاف السعادة وكما أن السعادة ضربان سعادة دنيوية وسعادة أخروية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب : سعادة نفسية، وبدنية، وخارجية، كذلك الشقاوة على هذه الأضرب وفي الشقاوة الأخروية قال تعالى :﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ وفي الدنيوية ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ انتهى وقد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا كما قال في "القاموس" الشقا الشدة والعسر ويمد انتهى.
فالمعنى لا تباشر أسباب الخروج فيحصل الشقاء وهو الكد والتعب الدنيوي مثل الحرث والزرع والحصد والطحن والعجن والخبز ونحو ذلك مما لا يخلو الناس عنه في أمر تعيشهم ويؤيده ما بعد الآية.
قال الكاشفي :(فتشقى كه تودر رنج افتى يعنى ون از بهشت بيرون روى بكديمين وعرق جبين اسباب معاش مهيا بايدكرد).
عن سعيد بن جبير أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاوة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٣٣
يقول الفقير : الظاهر أن الشيطان بسبب عداوته لا يخلو عن تحريض فعل يكون سبباً للخروج فالشقاوة في الحقيقة متفرعة على مباشرة أمر منهي عنه فافهم.
وفي "التأويلات النجمية" : هي شقاوة البعد عن الحضرة إن لم يرجع إلى مقام قربه من جوار الحق بالتوبة والاستغفار.
وفيه إشارة إلى أن العصيان وامتثال الشيطان موجب للإخراج من جنة القلب والهبوط إلى أرض البشرية بعد الصعود عنها والعبور عليها.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٣٣
﴿إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا﴾ لك خبر أنّ وأن لا تجوع في محلّ النصب على الاسمية أي : قلنا إن حالك ما دمت في الجنة عدم الجوع إذ النعم كلها حاضرة فيها ﴿وَلا تَعْرَى﴾ من الثياب لأن الملبوسات كلها موجودة في الجنة والعرى الجلد عما يستره.
﴿وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيهَا﴾ أي : لا تعطش لأن العيون والأنهار جارية على الدوام.
قال الراغب : الظمىء ما بين الشربتين والظمأ العطش الذي يعرض من ذلك ﴿وَلا تَضْحَى﴾ أي : لا يصيبك حر الشمس في الجنة إذ لا شمس فيها وأهلها في ظل ممدود يقال ضحى الرجل للشمس بكسر الحاء إذا برز وتعرض لها وأن بالفتح مع ما في حيزها عطف على أن لا تجوع وفصل الظمأ دفعاً لتوهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العرى والضحو.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الجنة وإن كانت باقية وهي جوار الحق لكنها مرتعة من مراتع النفس البهيمية الحيوانية ولها
٤٣٦
فيها تمتع من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات كما كان لها في المراتع الدنيوية الفانية انتهى.
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـانُ﴾ أي : أنهى إلى آدم وسوسته وأبلغ فتعديته بإلى باعتبار تضمينه معنى الإنهاء والإبلاغ وإذا قيل وسوس له فمعناه لأجله والوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلى لأصواتها وهو فعل لازم.
قال الكاشفي :(س وسوسه كرد بسوى آدم شيطان س آزانكه ببهشت درآمد وحوارا ديد وازمرك بترسانيد وحوا با آدم بازكفت وآدم ازمرك ترسان شده بابليس كه بصورته بيرى برايشان ظاهر شده بوديدو رجوع كرده بود بطريق تضرع ازوى علاج مرك طلبيد) ﴿قَالَ﴾ أما بدل من وسوس أو استئناف كأنه قيل فماذا قال في وسوسته فقيل قال : يا اـاَادَمُ} (علاج اين مرض خوردن ميوه شجره خلداست) ﴿هَلْ أَدُلُّكَ﴾ (آيادلالت كنم ترا) ﴿عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ أي : شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلاً سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكاً فإضافها إلى الخلد وهو الخلود لأنها سببه بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنها سببها.
قال الراغب الخلود تبرى الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها ﴿وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ أي : لا يزول ولا يختل بوجه من الوجوه، وبالفارسية :(كهنه نشود آدم كفت دلالت كن مرابا آن ابليس راهنمون شد آدم وحوارا بشجره منهيه).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٣٦


الصفحة التالية
Icon