وفي "العرائس للبقلى" : أن الله تعالى حذر الجمهور من مناقشته في الحساب وزجرهم حتى ينتهوا عن رقاد الغفلات وقرب الحساب أقرب من كل شيء منهم لو يعلمون فإنه تعالى يحاسب العباد في كل لمحة ونفس وحسابه أدق من الشعر وأخفى من دبيب النمل على الصفا ولا يعرف ذلك إلا المراقبون الذي يحاسبون في كل نفس وخطوة وهم في غفلة وفي حجاب عن مشاهدة الله معرضون عن طاعته إذ لا حظ لهم في الطاعات ولا شرب لهم في المشاهدات.
﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ﴾ من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم الحساب أكمل تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر ﴿مِّن رَّبِّهِمُ﴾ من لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بيأتيهم وفيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به ﴿مُّحْدَثٍ﴾ بالجر صفة لذكر أي : محدث تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة لتكرره على أسماعهم للتنبيه كي يتعظوا فالمحدث تنزيله في كل وقت على حسب المصالح وقدر الحاجة لا الكلام الذي هو صفة قديمة أزلية وأيضاً الموصوف بالإتيان وبأنه ذكر هو المركب من الحروف والأصوات وحدوثه مما لا نزاع فيه قالوا : القرآن اسم مشترك يطلق على الكلام الأزلي الذي هو صفة الله وهو الكلام النفسي القديم من قال بحدوثه كفر ويطلق أيضاً على ما يدل عليه وهو النظم المتلو الحادث من قال بقدمه سجل على كمال جهله ﴿إِلا اسْتَمَعُوهُ﴾ استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ حال من فاعل استمعوه يقال لعب إذا كان فعل غير قاصد به مقصداً صحيحاً.
﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ حال أخرى يقال لها عنه إذا ذهل وغفل.
قال الراغب اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه يقال لهوت بكذا ولهيت بكذا اشتغلت عنه بلهو وألهاه عن كذا شغله عما هو أهم.
والمعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه متشاغلين عن التأمل فيه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب قدم اللعب على اللهو تنبيهاً على أنهم إنما قدموا على اللعب لذهولهم عن الحق فاللعب الذي هو السخرية والاستهزاء نتيجة اللهو الذي هو الغفلة عن الحق والذهول عن التفكر.
قال بعضهم : القلب اللاهي هو المشغول بأحوال الدنيا والغافل عن أحوال العقبى.
قال الواسطي لاهية عن المصادر والموارد والمبدأ والمنتهى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٥١
يا الهي بحود نامتناهى
ازسوا دوركن دل لاهى
﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ النجوى في الأصل مصدر، بالفارسية :(راز كفتن) ثم جعل اسماً من التناجي بمعنى القول الواقع بطريق المسارة أي : السر بين اثنين فصاعداً يقال تناجى القوم إذا تسارّوا وتكالموا سراً عن غيرهم.
قال الراغب ناجيته ساررته وأصله ارتحلوا به في نجوه
٤٥٢
من الأرض أي : المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله ومعنى إسرارها مع أنها لا تكون إلا سراً أنهم بالغوا في إخفائها ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ على أنفسهم بالشرك والمعصية بدل من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به كأنه قيل فماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا :﴿هَلْ هَـاذَآ﴾ هل بمعنى النفي أي : ما محمد ﴿إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ لحم ودم مساو لكم في المأكل والمشرب وكل ما يحتاج إليه البشر والموت مقصور على البشرية ليس له وصف الرسالة التي يدعيها والبشر ظاهر الجلد والأدمة باطنه عبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وخص في القرآن كل موضع عبر عن الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر ﴿أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار ومؤكدة للاستبعاد أي : ما هذا إلا من جنسكم وما أتى به يعنون القرآن سحر أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر أي : الخداع والتخييلات التي لا حقيقة لها.
قال الإمام طعنوا في نبوته بأنه بشر وما أتى به سحر وهو فاسد إذ صحة النبوة تعرف من المعجزة لا من الصورة ولو بعث الملك إليهم لم يعلموا نبوته بصورته بل بالمعجزة فإذا ظهر على يد بشر وجب قبوله :
لوح صورت بشوى ومعنى جو
كه صور برك شد معاني بو
وإنما أسروا ذلك لما كان هذا الحديث منهم على طريق التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمر النبوة وإطفاء الدين وعادة المشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم ما أمكن ومنه قول معاذ رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم "استعينوا على نجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٥١


الصفحة التالية
Icon