﴿قَالَ﴾ الرسول عليه السلام بعدما أوحى إليه أقوالهم وأحوالهم بياناً لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ﴿رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾ سراً كان أو جهراً حال كون ذلك القول ﴿فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ﴾ فضلاً عما أسروا به وإذا علم القول علم الفعل ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي : المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم.
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـام﴾ الضغث بالكسر قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس وأضغاث أحلام رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها كما في "القاموس".
والحلم بضم الحاء وسكون اللام الرؤيا وضم اللام أيضاً لغة فيه فالأحلام بمعنى المنامات سواء كانت باطلة أو حقة وأضيفت الأضغاث بمعنى الأباطيل إليها على طريق إضافة الخاص إلى العام إضافة بمعنى من وقد تخص الرؤيا بالمنام الحق والحلم بالمنام الباطل كما في قوله عليه السلام :"الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" ثم إن هذا إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قول إلى آخر أي : لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام ﴿هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ﴾ وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا تخاليط أحلام أي : أخلاط أحلام كاذبة رآها في المنام ﴿بَلِ افْتَرَاهُ﴾ من تلقاء نفسه من غير
٤٥٣
أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم قالوا :﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها وهذا شأن المبطل المحجوج متحير لا يزال يتردد بين باطل وأبطل فالإضراب الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم.
قال الراغب شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت كذا أي : علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر قيل وسمي الشاعر لفطنته ودقة معرفته فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري وصار في التعارف اسماً للموزون المقفى من الكلام والشاعر للمختص بصناعته وقوله تعالى حكاية عن الكفار ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ كثير من المفسرين حملوه على أنهم رموه بكونه آتياً بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظة تشبه الموزون من نحو قوله :"وجفان كالجواب وقدور راسيات" وقوله تعالى :﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ﴾.
وقال بعض المحققين لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الاغتام من العجم فضلاً عن بلغاء العرب وإنما رموه بالكذب فإن الشعر يعبر به عن الكذب والشاعر الكاذب حتى سموا الأدلة الكاذبة بالشعر ولكون الشعر مقر الكذب.
قيل : أحسن الشعر أكذبه.
وقال بعض الحكماء لم ير متدين صادق اللهجة مفلقاً في شعره :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٥١
در قيامت نرسد شعر بفرياد كسى
كر سراسر سخنش حكمت يونان كردد
وأما قول صاحب "المثنوي" :
از كرامات بلند اوليا
اولا شعرست وآخر كيميا
فالمراد به القدرة على إنشاء الكلام الموزون وليس من مقتضاها التكلم ﴿بَلْ قَالُوا﴾ جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله فليأتنا بآية جليلة ﴿كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ﴾ أي : مثل الآية التي أرسل بها الأولون كاليد والعصا وإحياء الموتى والناقة ونظائرها حتى نؤمن به فما موصولة وعائدها محذوف ومحل الكاف الجر على أنها صفة الآية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٥١
﴿مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم﴾ قبل مشركي مكة ﴿مِن قَرْيَةٍ﴾ اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس أي : من أهل قرية وهو في محل الرفع على الفاعلية ومن مزيدة لتأكيد العموم ﴿أَهْلَكْنَـاهَآ﴾ أي : بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيىء ما اقترحوه من الآيات صفة لقرية ﴿أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ الهمزة لإنكار الوقوع والفاء للعطف على مقدر.
والمعنى أنه لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سئلوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعتى منهم وأطغى كما قال تعالى : ٤٥أكفاركم خير من أولائكم (القمر : ٤٣) يعني أن كفاركم مثل أولئك الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون فهم في اقتراح تلك الآيات كالباحث عن حتفه بظلفه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
ولا تك كالشاة التي كان حتفها
بحفر ذراعيها فلم ترض محفراً وأصله أن رجلاً وجد شاة وأراد ذبحها فلم يظفر بسكين وكانت مربوطة فلم تزل تبحث
٤٥٤
برجليها حتى أبرزت سكيناً كانت مدفونة فذبحها بها يضرب في مادة تؤدي صاحبها إلى التلف وما يورط الرجل فيه نفسه كهذا المستعمق وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للترحم بهم إذ لو أتى به لم يؤمنوا واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم وقد سبق وعده تعالى في حق هذه الأمة أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.