﴿وَلَهُ﴾ خاصة ﴿مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ أي : جميع المخلوقات إيجاداً واستبعاداً ﴿وَمَنْا عِندَهُ﴾ من عطف الخاص على العام والمراد الملائكة المكرمون المنزلون لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك على طريقة التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على أكثر خلقه لا على الجميع كما زعم أبو بكر الباقلاني وجميع المعتزلة فالمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان والجهة وعند وإن كان من الظروف المكانية إلا أنه شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ المشبه به.
قال الكاشفي :(يعني فرشتكان كه مقربان دركاه الوهيت اند وشما ايشانرا مى رستيد) ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي : لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبيرة بل يتفاخرون بعبوديته فالبشر مع نهاية ضعفهم أولى أن يطيعوه والجملة حال من قوله من عنده.
وجعل المولى أبو السعود رحمه الله من عنده مبتدأ ولا يستكبرون خبره ﴿وَلا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ ولا يكلون ولا يعيون يقال حسر واستحسر إذا تعب وأعيى يعني أن استفعل بمعنى فعل نحو قر واستقر.
قال في "المفردات" : الحسر كشف الملبس عما عليه يقال حسرت عن الذراع والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر والناقة حسير حسر عنها اللحم والقوة والحاسر المعيى لانكشاف قواه ويقال للمعي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره والحسرة الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أدركه وأعياه عن تدارك ما فرط منه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٠
﴿يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ كأنه قيل كيف يعبدون فقيل يسبحون الليل والنهار أي : ينزهونه في جميع الأوقات عن وصمة الحدوث وعن الأنداد ويعظمونه ويمجدونه دائماً ﴿لا يَفْتُرُونَ﴾ لا يتخلل تسبيحهم فترة طرفة عين بفراغ منه أو بشغل آخر لأنهم يعيشون كما يعيش الإنسان بالنفس والحوت بالماء.
يعني أن التسبيح بالنسبة إلى الملائكة كالتنفس بالنسبة إلينا فكما أن قيامنا وقعودنا وتكلمنا وغير ذلك من أفعالنا لا يشغلنا عن التنفس فكذلك الملائكة لا يشغلهم عن التسبيح شيء من أفعالهم كما قال عبد الله بن الحارث لكعب أليس إنهم يؤدون الرسالة ويلعنون من لعنه الله كما قال :﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلا﴾ (فاطر : ١) وقال :﴿أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائكَةِ﴾ (البقرة : ١٦١) فقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا فلا يمنعهم عن عمل.
فإن قلت التسبيح واللعن من جنس الكلام فكيف لا يمنع أحدهما الآخر.
قلنا لا يبعد أن يخلق الله لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون وببعضها يلعنون.
أو المعنى لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته كما يقال فلان مواظب على الجماعة لا يفتر عنها فإنه لا يراد به دوام الاشتغال بها وإنما يراد العزم على أدائها في أوقاتها كما في "الكبير".
وعن بعض أرباب الحقائق زالت مشقة التكاليف الشرعية عن أهل الله تعالى لفرط محبتهم إياه سبحانه ولتبدل مجاهدتهم بالحب الإلهي لأنه ظهر شرف تلك التكاليف وبهر كونها تجليات الهية.
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي قدس سره وهو يقول لا تتيسر حلاوة العبودية إلا بعد المعرفة التامة بالله تعالى والشهود الكامل له وذلك لأن لذة المناجاة مع السلطان لا يصل إليها السائس
٤٦٢
فعبادة أهل الحجاب لا تخلو عن فتور وكلفة بخلاف أهل الكشف الإلهي فإن العبادة صارت لهم كالعادة لغيرهم في سهولة المأخذ والقيام بها نسأل الله تعالى أن يخفف عنا الأوزار أنه الكريم الغفار.
قال الراغب الفتور سكون بعد حدة ولين بعد شدة وضعف بعد قوة قال تعالى : يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} (المائدة : ١٩) أي : سكون خال عن مجيىء رسول وقوله تعالى :﴿لا يَفْتُرُونَ﴾ أي : لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة وفي الحديث :"لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن فتر إلى سنتي فقد نجا وإلا فقد هلك" فقوله :"لكل شرة" فترة إشارة إلى ما قيل للباطل صولة ثم تضمحل وللحق دولة لا تزل وقوله :"من فتر إلى سنتي أي : سكن إليها فالطرف الفاتر فيه ضعف مستحسن والفتر ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة يقال فترته بفترى وشبرته بشبري انتهى كلام الراغب الأصفهاني في "كتاب المفردات".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٠


الصفحة التالية
Icon