قال بعض أرباب الحقائق : لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية مدبرات مثل العقل في سماء الروحانية وفي الهوى أرض البشرية غير هداية الله تعالى بواسطة الأنبياء والشرائع لفسدنا كما فسدت بتدبير العقل والهوى سماء الروحانية الفلاسفة والطبائعية والدهرية والإباحية والملاحدة وأرض بشريتهم فأما فساد سماء أرواحهم فبأن زلت قدمهم عن جادة التوحيد وصراط الوحدانية حتى أثبتوا لواحد القديم شريكاً قديماً وهو العالم فلم يقبلوا دعوة الأنبياء ولم يهتدوا بهداية الحق، وفي "المثنوي" :
اى ببرده عقل هديه تا اله
عقل آنجا كمترست ازخاك راه وأما فساد أرض بشريتهم فبأن زلت قدمهم عن جادة العبودية وصراط الشريعة والمتابعة حتى عبدوا طاغوت الهوى والشيطان وآل أمر فساد حالهم إلى أن قال تعالى فيهم :﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ (البقرة : ١٨).
قال الشيخ أبو عثمان المغربي قدس سره من أمر السنة على نفسه أخذاً وتركاً وحباً وبغضاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فعلى السالك أن يأخذ بالطريق الوسط وهو طريق الكتاب والسنة الموصل إلى الجنة والقربة والوصلة ويجتهد في تحصيل كمال الصدق والإخلاص إذ هو الزاد لأهل الاختصاص نسأل الله الفياض
٤٦٤
الكريم أن يشرفنا بفيضه العميم ويثبتنا على صراطه المستقيم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٣
﴿لا يُسْـاَلُ﴾ الله تعالى ﴿عَمَّا يَفْعَلُ﴾ ويحكم ﴿وَهُمْ﴾ أي : العباد ﴿يُسْـاَلُونَ﴾ عما يفعلون نقيراً وقطميراً والسؤال استدعاء معرفة أو ما يؤدي إلى المعرفة وجوابه على اللسان واليد خليفة له بالكتابة والإشارة.
فإن قيل ما معنى السؤال بالنسبة إلى الله تعالى؟ قلنا تعريف للقوم وبتكيتهم لا تعريفتعالى فإنه علام الغيوب فالسؤال كما يكون للاستعلام يكون للتبكيت وإنما لا يسأل سؤال إنكار ويجوز السؤال عنه على سبيل الاستكشاف والبيان كقوله :﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ﴾ (مريم : ٨) وعلى سبيل التضرع والحاجة كقوله تعالى حكاية عن الكافر ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾ (طه : ١٢٥).
قال في "بحر العلوم" : إنما لا يسأل عما يفعل لأنه رب مالك علام لا نهاية لعلمه وكل من سواه مربوب مملوك جاهل لا يعلم شيئاً إلا بتعليم فليس للمملوك الجاهل أن يتعرض على سيده العليم بكل شيء فيما يفعل ويقول لم فعلت وهلا فعلت مثلاً وهم يسألون لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون فيقال لهم في كل شيء فعلوه لم فعلتم.
واعلم أن الاعتراض شؤم يسخط الرب ويوجب عقابه وسخطه، قال الحافظ :
مزن زون ورادم كه بنده مقبل
قبول كردبجان هرسخن كه جانان كفت
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٣
وبشؤم الاعتراض على الله في فعله لعن إبليس وكان من مردة الكافرين فإنه تعالى لما أمره بالسجود قال :﴿لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَـاـاِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ (الإسراء : ٦١) وبشؤم الاعتراض في شأن بني آدم أصاب الملكين هاروت وماروت ما أصابهما فهذا بالاعتراض في شأن المخلوق فكيف بالاعتراض في شأن الخالق وبالاعتراض على الله والتعمق في الخوض في صفاته هلك الهالكون من أهل الأهواء وأرباب الآراء تعمقوا فيما لم يتعمق فيه أصحاب رسول الله والتابعون ومن تبعهم من أهل الحق وتكلفوا الخوض فيه فوقعوا في الشبهات فضلوا وأضلوا ولو لم يتعمقوا لسلموا وقد اتفقت كلمة أهل الحق على أن الاعتراض على الله الملك الحق في فعله وما يحدثه في خلقه كفر فلا يتجرىء عليه إلا كافر وجاهل ضال.
وكذا الاعتراض على النبي عليه السلام فإنه إنما يقول عن الحق لا عن الهوى فالاعتراض عليه اعتراض على الحق وفيه الهلاك.
قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله يقول :"يا أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام عكاشة بن محصن فقال : أكل عام يا رسول الله فقال :"لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتموها لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" فأنزل الله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْـاـاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة : ١٠١) الآية.
ومن أشد التشنيع وأقبح الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما روى عن بعض الكبار أنه قال : كنت في مجلس بعض الغافلين فتكلم إلى أن قال لا مخلص لأحد من الهوى ولو كان فلاناً عني به النبي عليه السلام من حيث قال :"حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" فقلت أما تستحيى من الله تعالى فإنه ما قال أحببت بل قال حبب فكيف يلام العبد من عند الله ثم حصل لي هم وغم فرأيت النبي عليه السلام في المنام فقال : لا تغتم فقد كفيناك أمره ثم سمعت أنه قتل.
قال الفقهاء من عيره عليه السلام بالميل إلى نسائه قاصداً به النقص يقتل قاتله الله تعالى.
يقول الفقير :
٤٦٥


الصفحة التالية
Icon