﴿يَعْلَمْ﴾ الله تعالى أي : لا يخفى عليه ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما قدموا من الأقوال والأعمال ﴿وَمَا خَلْفَهُم﴾ وما أخروا منهما وهو الذي ما قالوه وما عملوه بعد فيعلمهم بإحاطته تعالى بذلك ولا يزالون يراقبون أحوالهم فلا يقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى فهو تعليل لما قبله وتمهيد لما بعده ﴿وَلا يَشْفَعُونَ﴾ الشفع ضم الشيء إلى مثله.
والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة ﴿إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ أن يشفع له من أهل الإيمان مهابة منه تعالى وبالفارسية :(مكر كسى كه خداى بشفاعت به سندد اورا) قال ابن عباس رضي الله عنهما إلا لمن قال لا إله إلا الله.
فلا دليل فيه للمعتزلة في نفي الشفاعة عن أصحاب الكبائر.
قال في الأسئلة المقحمة هذا دليل على أن لا شفاعة لأهل الكبائر لأنه لا يرضى لهم والجواب قد ارتضى العاصي لمعرفته وشهادته وإن كان لا يرتضيه لفعله لأنه أطاعه من وجوه وإن عصاه من وجوه أخر فهو مرتضاه من وجوه الطاعة له ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما الذي ارتضاهم هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله، وفي "المثنوي" :
٤٦٨
كفت يغمبركه روز رستخيز
كى كذارم مجرمانرا اشك ريز
من شفيع عاصيان باشم بجان
تارهانم شان زاشكنجه كران
عاصيان واهل كبائررا بجهد
وارهانم ازعتاب نقض عهد
صالحان امتم خود فارغند
از شفاعتهاى من روز كزند
بلكه ايشانرا شفاعتها بود
كفتشان ون حكم نافذمى رود
﴿وَهُمْ﴾ مع ذلك ﴿مِّنْ خَشْيَتِهِ﴾ أي : من خشيتهم منه تعالى فأضيف المصدر إلى مفعوله ﴿مُشْفِقُونَ﴾ مرتعدون (يا ازمهابت وعظمت اوترسان) والإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه كما في "المفردات".
قال ابن الشيخ الخشية والإشفاق متقاربان في المعنى والفرق بينهما أن المنظور في الخشية جانب المخشى منه وهو عظمته ومهابته وفي الإشفاق جانب المخشى عليه وهو الاعتناء بشأنه وعدم الأمن من أن يصيبه مكروه ثم إنالإشفاق يتعدى بكل واحد من كلمتي من وعلى يقال أشفق عليه فهو مشفق وأشفق منه أي : حذر فإن عدى بمن يكون معنى الخوف فيه أظهر من معنى الاعتناء وإن عدى بعلى يكون معنى الاعتناء أظهر من معنى الخوف.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه رأى جبريل ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله تعالى.
وعنه أيضاً أن إسرافيل له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب والعرش على جناحه وإنه ليتضاءل الأحيان حتى يعود مثل الوصع وهو بالسكون ويحرك طائر أصغر من العصفور كما في "القاموس" :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
خوف وخشيت حليه اهل دلست
امن وبى روايى شان غافلست
حينئذٍ.
﴿وَمَن يَقُلْ﴾ (وهركه كويد) ﴿مِنْهُمْ﴾ أي : من الملائكة ﴿إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِهِ﴾ أي : حال كونه متجاوزاً إياه تعالى ﴿فَذَالِكَ﴾ الذي فرض قوله فرض محال فهذا لا يدل على أنه قالوه.
وقال بعضهم هو إبليس حيث ادعى الشركة في الألوهية ودعا إلى عبادة نفسه وفيه إنه يلزم أن يكون من الملائكة ﴿نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ كسائر المجرمين ولا يغني عنهم ما ذكر من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية وهو تهديد للمشركين بتهديد مدّعى الربوبية ليمتنعوا عن شركهم ﴿كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ﴾ مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذين يضعون الأشياء من غير مواضعها ويتعدون أطوارهم بالإشراك وادعاء الإلهية.
والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي : لا جزاء أنقص منه والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر يقال جزيته كذا وبكذا.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله :﴿لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ﴾ إلى أنهم خلقوا منزهين عن الاحتياج إلى مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وما يدفع عنهم البرد والحر وما ابتلاهم الله بالأمراض والعلل والآفات ليسبقوا الله بالقول ويستدعوا منه رفعها وإزالتها والخلاص منها بالتضرع وكذلك ما ابتلاهم الله بطبيعة تخالف أوامر الله تعالى فيمكن منهم خلاف ما يؤمرون ﴿وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ﴾ نظيره ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم : ٦) ولعمري إنهم وإن كانوا
٤٦٩


الصفحة التالية
Icon