مكرمين بهذه الخصال فإن بني آدم في سر ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ (الإسراء : ٧١) آكد المكرمين منهم بكرامات أكبر منها درجة وأرفع منها منزلة وذلك لأنهم لما خلقوا محتاجين إلى ما لا تحتاج إليه الملائكة أكرموا بالكرامتين اللتين لم تكرم بهما الملائكة فإحداهما الرجوع إلى الله مضطرين فيما يحتاجون إليه فأكرموا بكرامة الدعاء ووعدهم عليه بالاستجابة بقوله :﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر : ٦٠) فلهم الشركة مع الملائكة في قوله :﴿لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ﴾ الآية لأنهم بأمره دعوه عند رفع الحاجات ولذلك أثنى عليهم بقوله :﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ (السجدة : ١٦) وقد أعظم أمر الدعاء بقوله :﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ﴾ (الفرقان : ٧٧) وهم ممتازون عن الملائكة بكرامة الدعاء والاستجابة وهذه مرتبة الخواص من بني آدم في الدعاء.
فأما مرتبة أخص الخواص فهي أنهم يدعون ربهم لا خوفاً ولا طمعاً بل محبة منهم وشوقاً إلى وجهه الكريم كما قال :﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ (الأنعام : ٥٢) وهذه هي الكرامة الثانية التي من نتائج الاحتياج حتى لا يبقى شيء من المخلوقات إلا محتاجاً بخلاف مخلوق آخر فإن لكل مخلوق استعداداً في الاحتياج يناسب حال جبلته التي جبل عليها فكل مخلوق يفتقر إلى خالقه بنوع ما وتفتقر إليه بنوا آدم من جميع الوجوه وهذا هو سر قوله تعالى :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
﴿وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ﴾ (محمد : ٣٨) كما أن ذاته وصفاته استوعبت الغنى كذلك ذواتهم وصفاتهم استوعبت الفقر فأكرمهم الله بعلم أسماء ما كانوا محتاجين إليه كله ووفقهم للسؤال عنه وأنعم عليهم بالإجابة فقال :﴿وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ (إبراهيم : ٣٤) وعد ذلك من النعم التي لا نهاية لها وكرامة لا كرامة فوقها بقوله :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ﴾ (إبراهيم : ٣٤) وبقوله :﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ يشير إلى أنه يعلم ما بين أيدي الملائكة من خجالة قولهم :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ (البقرة : ٣٠) الآية فإن فيه شائبة نوع من الاعتراض ونوع من الغيبة ونوع من العجب حتى عيرهم الله فيما قالوا وقال :﴿إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة : ٣٠) يعني أعلم منه استحقاق المسجودية وأعلم منكم استحقاق الساجدية له وما خلفهم أي : وما يأمرهم بالسجود له والاستغفار لمن في الأرض يعني المغتابين من أولاده ليكون كفارة لما صدر منهم في حقهم ﴿وَلا يَشْفَعُونَ﴾ في الاستغفار ﴿إِلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ يعني الله تبارك وتعالى من أهل المغفرة وهم من خشيته مشفقون أي : من خشية الله وسطوة جلاله خائفون أن لا يعفو عنهم ما قالوا أو يأخذهم به ومن يقل منهم إني إله من دونه يعني من الملائكة فذلك نجزيه جهنم يشير إلى أنه ليس للملك استعداد الاتصاف بصفات الألوهية ولو ادعى هذه المرتبة فجزاؤه جهم البعد والطرد والتعذيب كما كان حال إبليس وبه يشير إلى أن الاتصاف بصفات الألوهية مرتبة بني آدم كما قال عليه السلام :"تخلقوا بأخلاق الله" وقال :"عنوان كتاب الله إلى أوليائه يوم القيامة من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت" فافهم جداً كذلك نجزي الظالمين يعني الذين يضعون الأشياء في غير موضعها كأهل الرياء والسمعة والشرك الخفي انتهى ما في "التأويلات النجمية".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٦٧
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الهمزة لإنكار نفي الرؤية وإنكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات والواو للعطف على مقدر والرؤية قلبية لا بصرية حتى لا يناقض قوله تعالى :﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الكهف : ٥١) والمعنى ألم يتفكروا أو ألم يستفسروا من العلماء أو ألم يطالعوا الكتب أو ألم يسمعوا الوحي ولم يعلموا ﴿أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا﴾ ثني الضمير الراجع إلى الجمع باعتبار أن المرجع إليه
٤٧٠


الصفحة التالية
Icon