قال الجنيد قدس سره : من كان بين طرفي فناء فهو فان ومن كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة في الحقيقة.
قال بعضهم : ظهور الكرامة من الأولياء إنما هو بعد الموت الاختياري أي : بوجوده لا بفقده فالموت لا ينافي الكرامة فالأولياء يظهرونها بعد وفاتهم الصورية أيضاً كذا في "كشف النور"، قال الصائب :
٤٧٧
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧٥
وفي "عمدة الاعتقاد" : للنسفي كل مؤمن بعد موته مؤمن حقيقة كما في حال نومه وكذا الرسل والأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم رسل والأنبياء حقيقة لأن المتصف بالنبوة والإيمان الروح وهو لا يتغير بالموت انتهى.
وإذ قد عرفت أن المراد بالنفس هي الروح لا معنى الذات فلا يرد أننفساً كما قال :﴿تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ﴾ (المائدة : ١١٦) مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفس وهي لا تموت وفي الحديث :"آجال البهائم كلها والخشاش والدواب كلها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها أخذ الله أرواحها وليس إلى ملك الموت من ذلك شيء" وفي الحديث "لا تضربوا إماءكم على كسر إنائكم فإن لها آجالاً كآجالكم".
ـ روي ـ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : استأذن أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله وقد مات وسجى عليه الثوب فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه بين صدغيه وقال : وانبياه واخليلاه واصفياه صدق الله ورسوله ﴿أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَـالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (الأنبياء : ٣٤ ـ ٣٥) ثم خرج إلى الناس فخطب وقال في خطبته : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد ربه فإن رب محمد حي لا يموت ثم قرأ ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُا أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ﴾ (آل عمران : ١٤٤) الآية.
قال الكاشفي :(هركه قدم از دروازه عدم بفضاى صحراى وجودنهاده بضرورت شربت فنا خواهد نوشيد ولباس ممات ووفات خواهد وشيد) :
هركه آمد بجهان اهل فنا خواهد بود
وانكه اينده وباقيست خدا خواهد بود
﴿وَنَبْلُوكُم﴾ أي : نعاملكم أيها الناس معاملة من يبلوكم ويختبركم كما قال الإمام إنما سمي ابتلاء وهو عالم بما سيكون لأنه في صورة الاختبار ﴿بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ بالبلايا والنعم كالفقر والألم والشدة والغنى واللذة والسرور هل تبصرون وتشكرون أو لا.
وقال بعضهم بالقهر واللطف والفراق والوصال والإقبال والإدبار والمحنة والعافية والجهل والعلم والنكرة والمعرفة.
قال سهل : نبلوكم بالشر وهو متابعة النفس والهوى بغير هدى والخير العصمة من المعصية والمعونة على الطاعة ﴿فِتْنَةً﴾ أي : بلاء واختياراً فهو مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال النبي عليه السلام :"إن الله يجرب أحدكم بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنه ما يخرج كالذهب فذاك الذي افتتن"، قال الحافظ :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٧٥
خوش بود كرمحك تجربه آيد بميان
تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
وقال الخجندي :
نقد قلب وسره عالم را
عشق ضراب ومحبت محكست
قال الراغب : يقال بلى الثوب بلى أي : خلق وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلي الجسم.
ويسمى التكليف بلاء من أوجه :
الأول : أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء.
والثاني : أنها اختبارات.
٤٧٨
والثالث : أن اختبار الله تعالى تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فصارت المنحة أعظم البلاءين وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه :"بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نشكر" ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه :"من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله" وإذا قيل : ابتلى فلاناً بكذا وبلاه فذلك يتضمن أمرين : أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره، والثاني : ظهور جودته ورداءته دون التعرف لحاله والوقوف على ما يجهل من أمره إذ كان الله علام الغيوب ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فنجازيكم على ما وجد منكم من الخير والشر فهو وعد ووعيد وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب.


الصفحة التالية
Icon