واعلم أن الغلبة والنصرة منصب شريف فهو بجند الله تعالى وهم الأنبياء والأولياء وصالحوا المؤمنين كما قال تعالى :﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ﴾ (الصافات : ١٧٣) أي : وإن رؤي أنهم مغلوبون لأن الغالبية له ألا ترى أن الله تعالى أظهر المؤمنين على العرب كلهم وافتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الاكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا وما وقع في بعض الأوقات من صورة الانهزام فهو من باب تشديد المحنة والبلاء الحسن.
فعلى المؤمن أن يثق بوعد الله تعالى ولا يضعف عن الجهاد فإن بالهمة تنقلع الجبال عن أماكنها.
وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أني ما قلعت خيبر بقوة جسمانية ولا بحركة غذائية لكني أيدت بقوة ملكوتية ونفس بنور ربها مضيئة عن جابر رضي الله عنه أن علياً رضي الله عنه لما انتهى إلى الحصن أخذ أحد أبوابه فألقاه في الأرض فاجتمع عليه بعد سبعون رجلاً فكان جهدهم أن أعادوا الباب قالوا :"كل طائر يطير بجناحيه والعاقل بهمته".
فللمزيد رجال وللحروب رجال†
﴿قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ﴾ أي : إنما شأنى أن أخوفكم مما تستعجلونه بما أوحي إلي من القرآن وأخبر بذلك لا الإتيان به فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمان برهاني لا عياني ﴿وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ﴾ إلى الإيمان جمع الأصم والصمم فقدان حاسة السمع ﴿إِذَا مَا يُنذَرُونَ﴾ شبهوا بالصم وهم صحاح الحواس لأنهم إذا سمعوا ما ينذرون به من آيات الله لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الذين عدموا مصحح السماع وينعق بهم فلا يسمعون وتقييد نفي السماع به مع أن الصم لا يسمعون الكلام إنذاراً كان أو تبشيراً لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكون صممهم في غاية وراءها وهذا من تتمة الكلام الملقن ويجوز أن يكون من جهته تعالى كأنه قيل قل لهم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم.
وفيه إشارة
٤٨٤
إلى أنه ليس للأنبياء والأولياء إلا الإنذار والنصح وليس لهم إسماع الصم وهم الذين لعنهم الله في الأزل بالطرد عن جوار الحضرة إلى أسفل الدنيا وأصمهم وأعمى أبصارهم بحبها وطلب شهواتها فلا يسمعون ما ينذرون به وإنما الإسماعلا للخلق كما قال تعالى :﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ﴾ (الأنفال : ٢٣).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٨٣
﴿وَلَـاـاِن مَّسَّتْهُمْ﴾ (واكر برسد بكفره) والمس اللمس ويقال في كل ما ينال الإنسان من أذى ﴿نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ أي : وبالله لئن أصابهم أدنى شيء من عذابه تعالى الذي ينذر به والنفحة من الريح الدفعة من العذاب القطعة كما في "القاموس" وعلى الأولى حمل شارح الشهاب ما وقع في قوله عليه السلام :"إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" قال في "بحر العلوم" من نفحته الدابة إذا ضربته أي : ضربة أو من نفحت الريح إذا هبت أي : هبة أو من نفح الطيب إذا فاح أي : فوحة كما يقال شمة.
وقال ابن جريج : أي نصيب من نفحه فلان من ماله إذا أعطاه حظاً منه ﴿لَّيَقُولَنَّ﴾ من غاية الاضطراب والحيرة يا وَيْلَنَآ} (واى برما) وقد سبق تحقيقه ﴿إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ﴾ أي : لدعوا على أنفسهم بالويل والهلاك واعترفوا عليها بالظلم حين تصاموا وأعرضوا وهو بيان لسرعة تأثرهم من مجيىء نفس الوعد أثر بيان عدم تأثرهم من مجيىء خبره.
وفيه إشارة إلى أن أهل الغفلة والشقاوة لا تنتبهون بتنبيه الأنبياء ونصح الأولياء في الدنيا حتى يمسهم أثر من آثار عذاب الله بعد الموت فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فاعترفوا بذنوبهم ونادوا بالويل والثبور على أنفسهم بما كانوا ظالمين فالظلم يجلب النقم ويسلب النعم سواء كان ظلم الغير أو ظلم النفس فليجتنب المؤمن من أسباب العذاب والنقمة وليأت إلى باب النجاة والرحمة وذلك بالمجاهدة وقمع الهوى واختيار طريق الطاعة والتقوى.
ـ روي ـ أن بعض الصالحين قال لعجوز متعبدة ارفقي بنفسك فقالت : إن رفقي بنفسي يغيبني عن باب المولى ومن غاب عن باب المولى مشتغلاً بالدنيا فقد عرض للمحن والبلوى ثم بكت وقالت : واسوأتاه من حسرة السباق وفجيعة الفراق أما حسرة السباق فإذا قاموا من قبورهم وركب الأبرار نجائب الأبرار وقدمت بين يديهم نجائب المقربين بقي المسبوق في جملة المحرمين وأما فجيعة الفراق فإذا جمع الخلق في مقام واحد أمر الله تعالى ملكاً ينادي أيها الناس امتازوا فإن المتقين قد فازوا كما قال تعالى :﴿وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يس : ٥٩) فيمتاز الولد من والديه والزوج من زوجته والحبيب من حبيبه فهذا يحمل مبجلاً إلى رياض الجنة وهذا يساق مسلسلاً إلى عذاب الجحيم فأين من يمسه العذاب ممن يصل إليه الثواب.