﴿قَالُوا﴾ في الكلام حذف أي : فأتوا به فلما شهدوه قالوا منكرين عليه فعله موبخين له ﴿فَعَلْتَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَا﴾ الكسر ﴿بِـاَالِهَتِنَا يا اإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَـاذَا﴾ مشيراً إلى الذي لم يكسره وهذا صفة لكبير أسند الفعل إليه باعتبار أنه الحامل عليه لأنه لما رأى الأصنام مصطفة مزينة يعظمها المشركون ورأى على "الكبير" ما يدل على زيادة تعظيمهم له وتخصيصهم إياه بمزيد التواضع والخضوع غاظة وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد.
وقال بعضهم فعله كبيرهم هذا غضب من أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها، يعني :(كفت من آن نكرده ام بلكه كرده است اين را بزرك ايشان ازروى خشم برايشان كه باوجود من را ايشانرا رستند) ﴿فَسْـاَلُوهُمْ﴾ عن حالهم ﴿إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ أي : إن كانوا ممن ينطقون حتى يخبروا من فعل ذلك بهم وفي الحديث :"لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا ثلاث كذبات" سميت بالمعاريض كذباً لما شابهت صورتها صورته وإلا فالكذب الصريح كبيرة فالأنبياء معصومون منها.
فإن قلت إذا كانت هذه معاريض لم جعلها سبباً في تقاعده عن الشفاعة حين يأتي الناس إليه يوم القيامة.
قلت : الذي يليق بمرتبة النبوة والخلة أن يصدع بالحق ويصرح بالأمر ولكنه قد تنزل إلى الرخصة فإن حسنات الأبرار سيآت المقربين والتعريض تورية الكلام عن الشيء بالشيء وهو أن تشير بالكلام إلى شيء والغرض منه شيء آخر فالغرض من قوله بل فعله كبيرهم الإعلام بأن من لم يستطع دفع المضرة عن نفسه كيف يستطيع دفع المضرة عن غيره فكيف يصلح إلهاً؟ قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المطلوب مباحاً وواجب إن كان المقصود
٤٩٤
واجباً فهذا ضابطه ثنتين في ذات الله أي : في طلب رضاه والثالثة كانت لدفع الفساد عن سارة وفيها رضى الله أيضاً لكن لما كان له نفع طبيعي فيها خصص الثنتين بذات الله دونهاقوله إني سقيم أي : إحدى تلك الكذبتين قوله إني سقيم وذلك أنه لما قال له أبوه : لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم تأويله إن قلبي سقيم بكفركم أو مراده الاستقبال كما قال الكلبي كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا للعيد لم يتركوا إلا مريضاً فلما همّ إبراهيم بكسر الأصنام نظر قبل العيد إلى السماء وقال : أراني أشتكي غداً فأصبح معصوباً رأسه فخرج القوم ولم يتخلف غيره وقوله : بل فعله كبيرهم مر شرحه وواحدة في شأن سارة وذلك أنه قدم الأردنّ وبها ملك جبار يقال له صادوق ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فأخبريه أنك أختي أي : في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيرك وغيري فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فقال له : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها وقام إبراهيم إلى الصلاة والدعاء فلما دخلت عليه أعجبته فمد يده إليها فأيبس الله تعالى يده فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك فدعت فعاد ثم وثم حتى دعا الذي جاء بها وقال : اخرجها من أرضي وأعطاها هاجر وكانت جارية في غاية الحسن والجمال وهبتها سارة لإبراهيم فولدت له إسماعيل عليهما السلام.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٤
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ﴾ أي : راجعوا عقولهم وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبوداً ﴿فَقَالُوا﴾ أي : قال بعضهم لبعض فيما بينهم.
﴿إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ بعبادتها لا من كسرها.
﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ أي : انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى مرضه الأول بعد العافية والنكس قلب الشيء ورد آخره على أوله.
وقال الكاشفي :(س نكونسار كرده شدند برسرهاى خود يعنى سردريش افكندنداز حجالت وغيرت).
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن لكل إنسان عقلاً لو رجع إلى عقله وتفكر في حاله لعلم صلاحه وفساد حاله، وفي "المثنوي" :
كشتىء بى لنكر آمدمردنر
كه زبادك ندارد او حذرلنكر عقلست عاقل را امان
لنكرى دريوزه كن ازعاقلان
وفيه إشارة أخرى وهي أن العقل وإن كان يعرف الصلاح من الفساد ويميز بين الحق والباطل ما لم يكن له تأييد من نور الله وتوفيق منه لا يقدر على اختيار الصلاح واحتراز الفساد فيبقى مبهوتاً كما كان حال قوم نمرود حيث نكسوا على رؤوسهم إذ لم يكونوا موفقين فما نفعهم ما عرفوا من الحق، وفي "المثنوي" :
جز عنايت كه كشايد شم را


الصفحة التالية
Icon