قال في "التأويلات النجمية" إذا أراد الله تعالى أن يكمل عبداً من عباده المخلصين يفديه بخلق عظيم كما أنه تعالى إذا أراد استكمال حوت في البحر يفديه بكثير من الحيتان الصغار فلما أراد تخليص ابريز الخلة من غش البشرية جعل النمرود وقومه فداء لإبراهيم حتى أجمعوا على تحريقه بعد أن علموا أنهم ظالمون فوضعوه في المنجنيق ورموه إلى النار فانقطع رجاؤه عن الخلق بالكلية متوجهاً إلى الله تعالى مستسلماً نفسه إليه حتى أن جبريل عليه السلام أدركه في الهواء فامتحنه بقوله هل لك من حاجة؟ وما كان فيه من الوجود ما تتعلق به الحاجة فقال : أما إليك فلا قال له جبريل : سل ربك امتحاناً له فأخفى سره عن جبريل غيرة على حاله فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي وما أظهر عليه حاله فأدركته العناية الأزلية بقوله :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٦
﴿قُلْنَا يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ البرد خلاف الحر والسلام التعري من الآفات أي : كوني ذات برد من حرك وسلامة من بردك فزال ما فيها من الحرارة والإحراق وبقي ما فيها من الإضاءة والإشراق واختاره المحققون لدلالة الظاهر عليه وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلاب النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله لكن وقوع ذلك على هذه الهيئة مما يخرق العادات وقيل : كانت النار بحالها إلا أنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه كخزنة جهنم في الآخرة وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار كما يشعر به ظاهر قوله على إبراهيم قيل فبردت نار الدنيا يومئذٍ ولم ينتفع بها أحد من أهلها ولو لم يقل على إبراهيم لبقيت ذات برد أبداً على كافة الخلق بل على جميع الأنبياء ولو لم يقل سلاماً بعد قوله برداً لمات إبراهيم من بردها.
قال في "الكبير" أما كونها سلاماً عليه فلأن البرد المفرط مهلك كالحر بل لا بد من الاعتدال وهو إما بأن يقدر الله بردها بمقدار لا يؤثر أو بأن يصير بعض النار برداً ويبقى بعضها على حرارته
٤٩٨
أو بأن يزيد في حرارة جسمه حتى لا يتأثر ببردها.
قيل : جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ النار ولذا أمر النبي عليه السلام بقتلها.
قيل : لما ألقى في النار كان فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال : ما كنت أطيب عيشاً زماناً من الأيام التي كنت فيها في النار كما قال بعض العارفين في جبل لبنان وكان يأكل أصول النبات وأوراق الشجر ظننت أن حالي أطيب من حال أهل الجنة، قال الحافظ :
عاشقاً نرا كردر آتش مينشا ندمهر دوست
تنك شمم كر نظر در شمه كوثر كونم
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٨
قيل لما رموه في النار : أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس.
قال الكاشفي :(ون ابراهيم بميدان آتش فرود آمد في الحال غل وبند او بسوخت) فبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فجاء فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي على أحسن ما يكون من الهيئة والنار محيطة به فناداه : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم قال : قم فأخرج فقام يمشي حتى خرج فاستقبله النمرود وعظمه وقال : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها فقال له النمرود : إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال إبراهيم لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا قال النمرود : لا أستطيع ترك ملكي وملتي لكن سوف أذبحها له ثم ذبحها وكف عن إبراهيم.
وفي "القصص" قال له النمرود : أي : بعد الخروج : ما أعجب سحرك يا إبراهيم قال : ليس هذا سحر ولكن الله جعل النار عليّ برداً وسلاماً وألبسني ثوب العز والبهاء فقال له النمرود : فمن ذلك الرجل الذي كان جالساً عن يمينك والرجال الذين كانوا حولك فقال له إبراهيم : فمن ملائكة ربي بعثهم إلي يؤنسونني ويبشرونني بأن الله قد اتخذني خليلاً فتحير النمرود ولم يدر ما يصنع بإبراهيم فحدثته نفسه بالجنون وقال : لأصعدن إلى السماء وأقتل إلهك فأمر أن يصنع له تابوت وثيق كما سبق في أواخر سورة إبراهيم.
ـ وروي ـ أنهم لما رأوه سالماً لم يحترق منه سوى وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ففعلوا فطارت شرارة إلى لحية أبي لوط فأحرقتها.